وقفة موضوعية مع البرمجة اللغوية العصبية
وقفة موضوعية مع البرمجة اللغوية العصبية 'NLP'
دراسات :المجتمع الكويتية :عدد1590ـ محرم 1425هـ
إن سلسلة المحاضرات والدورات التي تحذر من 'الفكر العقدي الوافد' وتبين منهجية التعامل معه تتحدث عن الوافدات الفكرية عمومًا وتطبيقاتها في الصحة والرياضة من منظور علمي وعقائدي واجتماعي، والحديث فيها أصالة عما يسمى بـ'الطاقة' وتطبيقاتها ويتبعه حديث موجز عن دورات البرمجة اللغوية العصبية 'NLP' ودورات المشي على النار، إذ العلاقة بين هذه الوافدات وثيقة، والمظلة التي تظلها واحدة وإقبال الناس عليها جميعها بدوافع متشابهة والنتيجة الخطرة التي تنتظر السائرين في طريقها متقاربة.
والبرمجة اللغوية العصبية على ما بدا حتى الآن ـ بعد دراسة وتقص ـ ليست من الفكر الذي أصله عقدي كما في الماكروبيوتيك والريكي والتشي كونغ وسائر تطبيقات الطاقة، إلا أنها البوابة لكل هذه الأفكار من وجه، ومن وجه آخر فقد داخلتها ـ في بعض تطبيقاتها ـ لوثات مختلفة من معتقدات الشرق، ثم إنها تقود في مستوياتها المتقدمة ـ ما بعد مستوى المدرب ـ إلى مزيج من الشعوذة والسحر فيما يسمى بالهونا والشامانية التي هي معتقدات الوثنية الجديدة في الغرب.
وفيما يلي وقفة موضوعية مع البرمجة اللغوية العصبية تحددها ثلاث محاور:
الأول: يتضمن وقفة مع المنهج العلمي.
والثاني: وقفة مع الآثار الاجتماعية.
والثالث: يشكل وقفة من منظور العقيدة الإسلامية.
أولاً: وقفة مع المنهج العلمي Scientific Method
ويقصد بالمنهج العلمي تلك الإجراءات التي أجمع العلماء على استخدامها عبر العصور؛ لتكوين تشكيل أو تمثيل صحيح لما يجري من وقائع وظواهر في العالم.
وحيث إن القناعات الشخصية، والقناعات الجماعية تؤثر على انطباعاتنا، وعلى تفسيرنا أو ترجمتنا للظواهر الطبيعية، فإن استخدام إجراءات معيارية قياسية منهجية يهدف للتقليل من هذا التأثر عند تطوير نظرية ما.
ومن المعلوم أن مراحل المنهج العلمي في الدراسات الكونية والإنسانية والاجتماعية تبدأ بالمشاهدات والملاحظات للظواهر، ثم تصاغ على أساسها الفرضيات، ثم إذا ثبتت بتجارب صحيحة وكانت لنتائجها مصداقية أو عدلت، ثم تمر النظرية أيضًا بتجارب وتختبر نتائجها لتكون حقيقة أو تقف عند حدود النظرية أو تلغى. والمنهج العلمي يؤكد وجود الأخطاء الإحصائية عند ذكر النتائج واعتمادها، وهذه يمكن توقعها أو قياسها ومن ثم تضاف للنتيجة ويتم تعديلها. كما ينبه على الأخطاء النابعة من الرغبة الشخصية،أو تأثير النتيجة المأمولة Wishfull thinding حيث يفضل الباحث نتيجة على أخرى، و[الزلل التراجعي] Regressive fallacy الذي يكون مجرد ربط من الباحث بين الملاحظة وشيء مقترن بها دون أن يكون بينهما علاقة سوى الاقتران أما أسوأ الأخطاء على الإطلاق أن تكون الاختبارات عاجزة عن إثبات الفرضية، ويدعي الباحث إثبات الفرضية بها، ويغض الطرف عن نتائج الاختبارات التي لا تتناسب مع الفرضية التي يرغب في إثباتها.
كما أنه من الأخطاء الكبيرة عدم إجراء التجارب 'عدم وضع الفرضية تحت الاختبار'، وبالتالي الخروج بنظرية من المشاهدات اعتمادًا على المنطق البسيط والإحساس العام 'الانطباع'.
وليست الوقفة مع المنهج العلمي في تقويم هذه الوافدات من قبيل التكلف والتعسف كما يدعي البعض؛ فالإسلام يدعونا إلى المنهجية العلمية بدعواته المتنوعة للتأمل والتفكر والعلم والتعقل والتذكر، وقد وضع العلماء المسلمون أصول المنهج العلمي الصحيحة سواء فيما يتعلق بالنقل أو العقل، إذ لم تكن الدعاوى تقبل لمجرد التدليل عليها بنصوص الوحيين أو أدلة العقل دون تحقيق وتدقيق، فالتحقيق: إثبات المسألة بدليلها، والتدقيق: فحص وجه الدلالة من الدليل ومدى مناسبته للمسألة 'الدعوى' وكان شعارهم: إذا كنت ناقلاً فالصحة 'توثيق النص' أو مدعيًا فالدليل، وكانوا روادًا في التمييز بين الحقائق والدعاوى، وأخذ الحق ورد الباطل مهما مزج بينهما المبطلون ولبسوا..
وبالنظر للبرمجة اللغوية العصبية في ضوء هذه الوقفة مع المنهج العلمي نجدها تفتقر إليه في عمومها وأغلب تفصيلاتها، وربما لهذا لم تلق ترحيبًا في الأوساط العلمية في معظم دول العالم وتفصيل نقدها من الناحية العلمية يمن تلخيصه فيما يلي:
ـ كثير من المشاهدات التي بنيت عليها فرضيات NLP ليس لها مصداقية إحصائية تجعلها فرضيات مقبولة علميًا.
ـ تعامل الفرضيات وتطبق ويدرب عليها الناس على أنها حقائق رغم أنها لا ترقى لمستوى النظرية.
ـ نظرياتها مقتبسة من مراقبة بعض الظواهر على المرضى النفسيين الذين يبحثون عن العلاج. ثم عممت على الأصحاء الذين يبحثون عن التميز.
ـ أكثر روادها من القادرين على دفع رسومها:
ـ الباحثين عن الحلول السريعة Quik fix بدلاً عن العمل Hard Work.
وأنا هنا أقدم تقيمين اتبعا منهجًا علميًا في نقد البرمجة: الأول هو التقديم المقدم للجيش الأمريكي من الأكاديميات القومية ففي عام 1987م بعد انتشار دورات تطوير القدرات رغب الجيش الأمريكي في تحري الأمر فقام معهد بحوث الجيش الأمريكي The US Army Research Istetute بتمويل أبحاث تحت مظلة 'تحسين الأداء البشري' على أن تقوم بها الأكاديميات القومية US National Academies التي تتكون من كل من الأكاديميات القومية للعلوم والهندسة والطب والبحث العلمي وتعتبر هذه الأكاديميات بمثابة مستشارة الأمة الأمريكية، وقد تكونت من هذه الأكاديميات مفوضية العلوم الاجتماعية والسلوكية والتعليم، ثم تم تكوين فريق علمي كان اختيار أعضائه على أساس ضمان كفاءات خاصة وضمان توازن مناسب، وعهد لمجموعات مختلفة بمراجعة البحوث وحسب الإجراءات المعتمدة لدى أكاديميات البحوث الأربعة.
وقد قدم الفريق ثلاثة تقارير:
الأول في عام 1988م، الثاني في عام 1991م، الثالث في عام 1994م.
التقرير الأول طرح تقويمًا للعديد من الموضوعات والنظريات والتقنيات منها البرمجة اللغوية العصبية الذي ذكر عنها ما نصه: 'أن اللجنة وجدت أنه ليس هناك شواهد علمية لدعم الادعاء بأن الـNLPاستراتيجية فعالة للتأثير على الآخرين، وليس هناك تقويم للـNLP كنموذج لأداء الخبير'.
واستمر البحث والتحري في مجال تحسين الأداء البشري وبعد ثلاث سنوات يشيد التقرير الثاني بنتائج التقرير الأول والقرارات التي اتخذها الجيش الأمريكي بخصوص عدد من التقنيات السلبية ومنها الـNLP حيث أوصى بإيقاف بعضها، وتهميش بعضها، ومنع انتشار البعض الآخر.
وبعد ثلاث سنوات أخرى اكتفى التقرير الثالث ـ نصًا ـ في موضوع البرمجة اللغوية العصبية بما قدم في التقريرين الأول والثاني.
|