الموضوع: الفرصة الأخيرة
عرض مشاركة واحدة
قديم 17-10-2004, 07:41 PM   #1
النشمي
عضـو دائم ( لديه حصانه )


الصورة الرمزية النشمي
النشمي غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1344
 تاريخ التسجيل :  03 2002
 أخر زيارة : 16-08-2022 (03:23 AM)
 المشاركات : 658 [ + ]
 التقييم :  10
لوني المفضل : Cadetblue
الفرصة الأخيرة



===== الفرصة الأخيرة ====

---------- بقلم : أ.د. عماد الدين خليل -----------


فجأة وجدت حازم إبراهيم قبالتي.. بعد ثلاثين سنة.. يجيئني محطماً، منهكاً كئيباً، وكأن شيئاً لم يتغير سوى أنه ازداد تعاسة وبؤساً..
واحد من زملائي المقربين أيام دراستي الجامعية في قسم علم النفس بجامعة بغداد.. حازم إبراهيم الذي أعياني وبقية الزملاء، بشروده المفاجئ عبر جلساته الطويلة، وتشبث نظراته الحائرة بالمجهول.. ها هو ذا يظهر كرة أخرى وكأنه يتحداني أن أجد لمعضلته المزمنة حلاً!
ترددت لحظات قبل أن أجد الكلمات المناسبة للترحيب به.. ووجدتني، بدلاً من ذلك، أندفع، على غير إرادتي، كما لو كنت في حلم لكي أسترجع عبر شريط سينمائي يدور سريعاً، رحلتي الطويلة مع النفس البشرية وحالاتها المترعة بالغرابة والشذوذ..
قبل أن أقرر الدخول إلى قسم علم النفس في كلية التربية ترددت طويلاً..
منذ بدايات مبكرة والشوق يدفعني إلى اجتياز بوابات الإنسان للتعرف على المجاهيل.. قرأت كثيراً.. وأوغلت في مسالكها ودروبها وأنا لا أزال- بعد- طالباً في المرحلة الثانوية.. وكنت أتأرجح بين المتعة والعذاب وأنا أقوم برحلتي الدورية بين الحين والحين.. عندما أكتشف جديداً.. عندما تتهتك الأستار عن حالة أو ظاهرة ما وتبدو قبالتي بأبعادها الكاملة.. الدوافع والمعطيات والنتائج المترتبة عليها. كانت السعادة تغمرني.. لكن، في المقابل، كثيراً ما كانت تستعصي على إدراكي المحدود حالات وحالات كنت أبذل جهداً مضاعفاً لتجاوز قدراتي والقفز في المجهول، ومحاولة العثور على المفتاح للدخول إلى عمق الظاهرة والتعرف عليها.. ولكن يبدو أن ذلك كان مستحيلاً..
ومع ذلك ترددت كثيراً قبل أن أدلف إلى قسم علم النفس الذي كان يمكن أن يضع خطواتي على الطريق الصحيح لولا ما كنت اسمع - بين الحين والحين- بأن هذا القسم لا يعدو أن يكون ساحة تعج بالشواذ والمعقدين، بل، ربما، بالمهووسين وأنصاف المجانين. وقد أتيح لي بالفعل أن أشهد نماذج منهم وأنا أتردد على الكلية لإعطاء خياري.. نماذج شتى من طلبة فقدوا سويتهم فآثروا اختيار التخصص الذي قد يفك عقدتهم، ويردهم إلى الطريق.. أو في الأقل، يجيبهم على الأسئلة المحيرة التي قادتهم إلى حافات التلف النفسي وساقت جملتهم العصبية إلى الالتواء. ولعل بعضهم- من يدري؟- آثر هذا الطريق الغريب إلى حد ما، من أجل أن يتميز على أقرانه بالانتماء إلى دنيا مترعة بالغرابة، ويردم فجوة النقص التي حفرتها الخبرات المرة في أغواره.
مهما يكن من أمر، فقد قبلت التحدي أخيراً وقلت في نفسي: لا بأس، فإنما الأْعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، كما علمنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، والعبرة بالنتائج.
شمرت عن ساعد الجد وقررت أن انتهز كل فرصة عبر سنوات الدراسة الجامعية الأربع.. داخل المحاضرات وخارجها.. وخلال اللحظات التي كنت أستطيع فيها أن أحاور هذا الأستاذ أو ذلك من كبار المتخصصين في ميادين علم النفس.
ومنذ الأسابيع الأولى بدا لعددٍ من هؤلاء الأساتذة أنني لست كسائر الطلبة الذين يدلفون إلى الجامعة لكي يقضوا في ربوعها سنوات أربع كتبت عليهم، ثم يغادروها دون أن يحملوا في جعبتهم شيئاً ذا بال. ولم تكن جديتي وحدها هي التي لفتت انتباههم، ولكن أسئلي الملحة، ومحاولة تجاوز المواد المقررة، بمفرداتها كافة، إلى ما وراءها.. لقد كنت بالفعل أسعى إلى عبور حيثيات الزمن واختزل المسافات.. وكان طموحي يدفعني إلى أن أضع قبالة أساتذتي افتراضات لم يكونوا هم قد حسبوا حسابها. وكنت أقول في نفسي: ما دام كل شيء ممكناً في مسارب النفس، فلماذا لا نستبق المجهول ونرصد الظواهر والحالات قبل أن تتشكل وتصبح أمراً واقعاً؟
وكان واضحا أنني سأكون الأول على وجبتي عبر سنوات الدراسة الأربع.. ولم أقف بعدها لأرتاح قليلاً.. فواصلت رحلة التخصص لفك الطلاسم وهتك الأسرار والبحث عن العلاج الممكن لحالات البؤس البشري ومعاناة النفوس الملتاعة، فإذا قدرت على إنقاذ كائن واحد من هؤلاء البائسين نلت شيئاً من القربى عند الله، وأشبعت في نفسي حاجة ملحة تتجاوز حدود التحقق الذاتي بالمعرفة الفريدة، إلى تحقيق ما كان أساتذتي في جامعة السوربون يسمونه: التضامن بين الإنسان والإنسان.
بعد سبع سنوات عدت إلى بلدي وأنا أحمل معي "الدكتوراه" في علم النفس، مع ليسانس في الطب لا بد منها لعالم النفس. ولم أشأ أن ألتحق بالجامعة لكي لا تستنزفني المحاضرات والمطالب الروتينية التي قد تبعد بالمتخصصين- أحياناً- عن الميدان، ولذا آثرت أن أفتح عيادة نفسية خاصة بي لكي أضع نفسي يومياً قبالة الحالات المستعصية أو الصعبة، فأعالجها وأتعلم منها. وقلت في نفسي: إنها فرصة مزدوجة للأخذ والعطاء وبذلك أواصل طريقي للإمساك أكثر بتلابيب النفس البشرية التي استفزتني منذ زمن بعيد.
يوماً بعد يوم كنت أجدني أتعامل مع حالات شتى، بعضها بسيط مكشوف وبعضها الآخر معقد ذو طبقات موغلة لا يكاد المرء يجتاز إحداها حتى يجد نفسه قبالة المزيد من الحواجز والسدود.. إنها أشبه بكتلة الثلج العائمة التي لا يبدو منها سوى العشر وتظل الأعشار التسعة مخفية تحت الماء.
رفضت منذ البداية الأسلوب العلاجي السهل الذي اعتمده جل أطباء النفس للتخفيف من معاناة مرضاهم.. أن يعطوهم حفنات من الحبوب المهدئة أو المخدرة أو المنومة التي تمنحهم ساعة أوساعتين من الاسترخاء ثم مايلبث الشد النفسي أن يزورهم كرة أخرى لكي يضعهم في دائرة العذاب، بعد أن يكونوا قد خسروا أوقاتاً مقتطعة من أعمارهم المحدودة، وبعد أن تكون المهدئات قد افترست هذا الجانب أو ذلك من سويتهم البيولوجية. إنها نوع من الهروب عن مجابهة المشكلة في عمقها الحقيقي.. هكذا كنت أردد في نفسي، ورفعت- بدلا من ذلك- شعار: "الصبر" الذي يرفض العجلة والبحث عن المردود السريع الذي يحقق ظاهراً الشفاء للمرضى، لكنه يسوقهم إلى الدمار على المدى البعيد، بحيث تظل العقدة تتغر في كيانهم وتزداد تجذراً.
رمقني حازم وأنا أشرد طويلا بنظرة امتزجت فيها الدهشة بالعتاب.. ابتسمت في وجهه بمودة وقلت وأنا أربت على كتفه:
- معذرة فقد جرفتني الذكريات.. وهو على أيه حال ذنبك وليس ذنبي!
أراد أن يتساءل عن السبب فبادرته بالقول:
- لقد ردتني زيارتك المفاجئة إلى ثلاثين سنة خلت فوقعت في أسر التداعيات.. إنك تعلم كم كانت سنوات الدراسة الجامعية عذبة سعيدة وعندما ألتقي عرضاً بأحد زملائي في الدراسة أكاد أمارس نوعاً من النكوص إلى براءة الماضي وأحلامه، هروباً من ضغوط الواقع، وصخبه، وأحزانه..
قال بنبرة مترعة بالأسى والإعياء:
- إننا مسحوقون يا دكتور سعدي.
لم أشأ أن أدخل معه مباشرة دائرة روتينيات الكشف، وتلمس أسباب العلاح لأنني كنت متشبثاً حتى تلك اللحظة باسترجاع الماضي من خلال زميل يبرز أمامي فجأة بعد غياب ثلاثين سنة!
- وما الذي فعلته عبر هذا المدى الزمني الطويل؟
لم يدرك سؤالي، أو لعله، بخلافي تماماً، كان يستعجل الدخول مباشرة إلى الموضوع الذي جاء من أجله.. أن يجد فرصة، ولو ضئيلة للخروج من محنته. فقال وهو يحاول أن يرسم بصعوبة ملامح ابتسامة على وجهه المتغضن:
- ها أنت ذا تراني.. أربعون سنة من المعاناة، وعشرات السنين من الكفاح المتواصل للبحث عن الخلاص.. والنتيجة.. لاشيء!
ووجدتني مرغماً على أن أدخل معه الموضوع مباشرة، ولكن ليس قبل أن أعيد عليه السؤال:
- وما الذي كنت تعمل منذ تخرجك؟ هل مارست التدريس؟..أم..
قاطعني وهو يكافح لتجاوز نفاد الصبر الذي غطى ملامح وجهه:
كما ترى، فليس أمام خريج قسم علم النفس سوى التدريس في المتوسطات والثانويات..
- وكيف كانت رحلتك مع التدريس؟
قال بسرعة وكأن الإجابة معلقة على شفتيه:
- زفت وقطران!!
أدركت أن معضلته من الحالات الصعبة، واخترقت ذاكرتي كالشهاب الأزمة التي كانت تنتابه منذ زمن دراستنا الجامعية... عندما كنا معاً نجلس بصحبة حشد من الزملاء في النادي أو في فناء الكلية، وأحياناً عبر أمسيات القسم الداخلي الطويلة، كان يشاركنا الحوار في اللحظات الأولى، وعلى حين غفلة كنا نلحظ ملامح وجهه تتغضن، وهي تتلقى، على ما يبدو، دفقة من الكآبة القادمة من طبقة ما في تكوينه النفسي، أو خزينه العقلي، فما يلبث أن يؤثر الصمت..
والاحتماء بالصمت مسألة اعتيادية، وقد تكون فرصة طبيعية مبررة للانفصال عن الآخرين والخلو إلى النفس لتصفية الحساب مع مرارتها وعذابها.. لكن الظاهرة التي جذبت انتباهنا جميعاً، أنه كان وهو يلوذ بالصمت يركز نظراته على نقطة ما.. نقطة قد تكون على مرمى حجر منا، وقد تكون بعيدة موغلة يصعب تحديد الفضاء الذي تتمركز فيه.. وتمر الساعة والساعتان وهو ينصت إلينا وكأنه حاضر معنا تماماً، لكنه ما كان يشاركنا الحديث على الإطلاق.. وأكثر من هذا، كنا نستفزه أحياناً بسؤال أو إثارة ما فيكتفي بابتسامة لا تتجاوز حافة شفتيه ولا تكاد تعني شيئاً..
في المرات الأولى كنا نستثقل وجوده معنا، لكن وبمرور الوقت، اعتدنا ذلك، بل إن حالته هذه أصبحت من ضرورات (الديكور) باعتبارنا طلبة في قسم علم النفس بالذات!
وكعادتي مع مرضاي ترددت قبل أن أوجه إليه أحد أسئلتي التقليدية
- هل لا تزال تعاني من حالة الانفصال عن الآخرين يا حازم..
قال وهو يتحفز للإجابة على المزيد من الأسئلة:
- لهذا جئتك
- ولماذا لم تجئ قبل هذا اليوم؟
- سوء حظي كما ترى. ثم أنني لم أقصر في البحث عن سبل الخلاص، فراجعت العديد من الأطباء..
لم أجد الفرصة ملائمة للإلحاح في عتابه، ثم انني رأيت أن ذلك قد يكون نوعاً من الغرور، فسألته محاولاً أن أغير مجرى الحديث:
- ألم تجد عبر هذا المدى الزمني المتطاول أي قدر من التحسن؟
قال يائساً:
- تحسن؟ على العكس، ما ازددت إلا تعاسة وبؤساً، وها أنت ذا تراني أمامك!
في اللحظات التي كنت أحاول فيها ترتيب أفكاري للبدء في التعامل مع الحالة، كان حازم قد انفصل عني وجرفه الشرود اللعين.. كانت عيناه تحدقان في نقطة ما في فضاء الغرفة، بينما كان وجهه يزداد شحوباً، ووجدتني مرغماً على اعتماد المنبهات العصبية لرده إلى الواقع.. إنني أكره هذه أيضاً.. مايسمى بالرجات الكهربائية، ولكن لا بد- أحياناً مما ليس منه بد.
وقال حازم وكأنه يفيق من حلم:
- هل كنت تسألني عن شيء ما؟
- أبداً.. وأحب أن أطمئنك إلى أنه ليس ثمة حالة تستعصي على العلاج
- هذا ما أرجوه يا دكتور سعدي، فقد سمعت عنك الكثير، ولعلك تتساءل مرة أخرى عن عدم لجوئي إليك.. لعله الخجل.. فأنت تعرفني جيداً منذ سنوات الدراسة الجامعية.. ثم ما لبث كل منا أن ذهب في طريق.. هذا التباعد الزمني يشكل أحياناً حواجز من الخجل يصعب اجتيازها بين الزملاء فكيف إذا كانت في حالتي محاولة لعرض عيوبي على زميل يملك القدرة على هتك الأسرار؟
قلت، محاولاً إقامة جسر ما بيني وبينه:
- بقدر ما يتعلق الأمر بي فإنني لا أعتبرها عيوباً..
- لا تكن مجاملاً.. أرجوك..
- ثق يا حازم إنني لا أجاملك، فالصدق في العيادات النفسية هو البداية الصحيحة، وإلا أفلتت الخيوط من أيدينا
قال وهو يحاول أن يستنشق الهواء بعمق:
- لم يبق في العمر متسع، وما انقضى اكبر مما تبقى ولكن الإنسان يتشبث حتى آخر لحظة من حياته..
- إنه حقك المشروع، وهو فضلا عن ذلك إشارة خضراء على أنك تمضي في الطريق الصحيح.
ومن اجل أن اقطع الشك جربت معه تلك الطرق العلاجية التي تعلمناها من كبار علماء النفس الغربيين ومؤسسي المدارس المعروفة في علم النفس ومضت أيام وأسابيع وأنا أحاول.. إنها مجرد كشوف لجانب ما من الخبرة النفسية لكنها ليست نهاية المطاف.. كما أنها لا تغطي المساحة كلها، لذا فهي قد تخطئ وقد تصيب. وكنت أرثي دائما لأولئك الأطباء الذين تنتشر عياداتهم في مدينتي والذين إذا تعاملوا مع منهج أو طريقة ما اعتبروها الحق المطلق واستدعوا أساليبها في العمل وكأنهم يدخلون معبداً مقدساً.
تجادلت معهم كثيرا فلم أصل إلى شيء، رغم أن محاولاتهم في معظم الأحيان لم تأت بطائل. سيجدون يوما يفيئون إلى الحق فيتحررون ولو قليلا من حالة التقديس والانجذاب التي يمارسون بها تعاملهم مع تلك المذاهب أو إعجابهم برجالاتها.



يتبع......
المصدر: نفساني



 

رد مع اقتباس