13-03-2022, 06:11 PM
|
#135
|
عضـو مُـبـدع
بيانات اضافيه [
+
]
|
رقم العضوية : 40364
|
تاريخ التسجيل : 09 2012
|
أخر زيارة : 25-11-2022 (02:32 PM)
|
المشاركات :
797 [
+
] |
التقييم : 34
|
الدولهـ
|
الجنس ~
|
|
لوني المفضل : Black
|
|
وقد أكد رجال خبراء في اضطرابات الحب ، ومجربون في العالم كله ، أنهم لم يعانوا قط جزعاً شبيهاً بذاك الذي تحدثه رائحـة ريميديوس الجميلة الطبيعية ، فسواء في ردهة أزهار البيغونيا ، أم في صالون الاستقبال ، أم في أي مكان من البيت ، كان بالإمكان تحديد المكان الذي كانت فيه بالضبط ، والوقت الذي انقضى منذ أن غادرته . لقد كان أثرها محدداً ، لا يمكن الخطأ فيه ، ولا يمكن لأحد من أهل البيت أن يميزه ، لأنه كان قد اختلط ، منذ زمن بعيد ، بالروائح اليومية المعهودة ؛ لكن الغرباء يتعرفـون إليـه فـوراً . ولهذا كانوا هـم وحـدهـم مـن يدركون أن قائد الحرس الشـاب قـد مـات حباً ، وأن سيدأ قادماً من بلاد أخرى ، قد أسلم نفسه لليأس .
وغير واعية لأجواء القلق التي تتحرك فيها ، والبلاء العميق الذي يسببه مرورها ، كانت ريميديـوس تعامل الرجال دون أدنى خبث ، وتجهز على عقولهم بملاطفاتها البريئة.
وعندما نجحت أورسولا فـي أن تفرض عليها تناول طعامها في المطبخ ، مع آمارانتا ، كيلا يراهـا الغرباء ، أحست هي براحة أكبر ، لأنها صارت بذلك في منجى من أي نظام.
والحقيقة أنه كان سيان لديها تناول الطعـام فـي أي مكان ، ودون مواعيد محددة ، وإنمـا فـي استجابة لشهيتها . فقـد كانت تستيقظ لتناول الغداء في الساعة الثالثة فجراً ، وتنام طوال النهار ، وتقضي عدة شهور وهي تعيش في توقيت مضطرب ، إلى أن تأتي حادثة مفاجئة ، لتعيدها إلى النظام . وعندما تكون الأمـور على أحسن حال ، تنهض فـي الساعة الحادية عشرة صباحاً وتبقى معتكفة في الحمام ، وهي عارية ، لوقت قد يستمر ساعتين کاملتين ، تقتل العقـارب ، ريثمـا تـزيـح عـن نفسها خمـول نعاسها الثقيل والطويل . وتبدأ بعد ذلك بسكب ماء الحوض على جسمها ، بإناء من ثمرة قرع مجوفة . كانت عملية بالغة الطول ، وبالغة الدقة ، وبالغة الغنى بالمواقف الطقوسية ، حتى إنه يمكـن لمن لا يعرفها جيداً أن يظن أنها مستسلمة لعبادة جسدها الجدير بالعبادة .
ولكن ذلك كله لم يكن ، بالنسبة إليها ، سوى طقس توحـد خـال مـن أية حسية ، وأنه ببساطة ، مجرد وسيلة لإضاعة الوقت ريثما تشعر بالجوع . وذات يوم ، عندما بدأت بالاستحمام ، انتزع أحد الغرباء قرميدة من السقف ، ووقف منقطع الأنفاس أمام مشهد عريها الرهيب . ورأت . العينين المذهولتين من خلال القرميد المنزوع ، ولم يكن
رد فعلها إحساساً بالخجل ، وإنما بالذعر .
فقد هتفت : - حذار . سوف تسقط . - أريد رؤيتك وحسب - تمتم الغريب . - آه ، لا بأس - قالت هـي - ولـكـن كـن حـذراً ، فهذا القرميد مهترئ . كانت على وجه الغريب ملامح ذهـول مؤلم ، وبدا كما لو أنه يجاهد دوافعه البدائية خفية ، كيلا يتلاشى ذلك السراب . وظنت ريميديـوس الجميلـة أنـه يـعـانـي مـن خـوف أن يتكسـر القرميـد فاستحمت أسرع من عادتها ، كيلا يظل الرجل في خطر . وبينما هي تسكب ماء من الحوض على جسدها ، قالت له إن بقاء السقف علـى هـذه الحـال مشكلة ، وإنها تعتقـد أن فرشـة أوراق الشجر المتعفنة من المطر ، هي التي تملأ الحمام بالعقارب .
وأخطأ الغريب في اعتبار تلك الثرثرة وسيلة لمواراة رضاها ، وهكذا وجد نفسه يستسلم لإغراء التقدم خطـوة إلى الأمام ، عندما بدأت تفـرك جسمها بالصابون ، فقال متلعثما : - اسمحي لي أن أفركك بالصابون . فقالت له : - أشكرك على طيب نواياك ، ولكن يدي تكفيان . - اسمحي لي ، ولو بفرك ظهرك - توسل الغريب . - سيكون ذلك بلاهـة - قـالـت - . فـلا أحـد يفـرك ظهره بالصابون . وفي ما بعد ، بينما هي تنشف جسدها ، توسل إليها الغريب ، وعيناه تغرورقان بالدموع ، أن تتزوج منه . فأجابته صراحة بأنها لن تتزوج أبدأ من رجل ساذج ، يضيع قرابة ساعة من الزمن ، حتى إنه يبقى دون غداء ، لمجـرد أن يـرى امـرأة تستحم . وأخيراً ، عندما لبست جلبابها ، لم يستطع الرجل تحمل تأكده من أنها لا ترتدي ، بالفعل ، شيئا تحته ، مثلما كان الجميع يتوقعون . وأحس أنـه قـد صار موسوماً إلى الأبد بحديدة ذلك السر المتقدة . فانتزع عندئذ قرميدتين أخريين ليتدلى إلى الحمام . - إنه عال جداً - حذرته هي ، بخوف - سوف تقتل نفسك . وتفتت القرميد المتهالك فـي قرقعة كارثـة ، ولـم يكـد الرجـل يتمكن إلا من إطلاق صرخة رعب ، وتحطمت جمجمته ، ومات دون احتضار على الأرضية الإسمنتية . الغرباء الذين سمعوا الضجة وهم في قاعة الطعام ، وأسرعوا لرفع الجثة ، شموا على جلدها رائحة ريميديـوس الجميلة الخانقة . كانت الرائحـة متغلغلـة فـي الجسد ، حتى إن شروخ الجمجمة لم تكن تنز دماً ، بل زيتاً عنبرياً يعبـق برائحـة ذلك العطـر السـري . وعندئذ أدركوا أن رائحـة ريميديوس الجميلة ، تواصل تعذيب الرجال في ما وراء الموت ، بل إنها تحول عظامهم إلى رميـم .
ومـع ذلـك ، لـم يـربـطـوا بـيـن تلـك الحادثة الرهيبة والرجلين اللذيـن مـاتـا مـن أجـل ريميديـوس الجميلة . كان لا بد من ضحية أخرى ، كي يصدق الغرباء ، وكثير من سكان ماكوندو القدماء ، أسطورة أن ريميديـوس بوينديا لا تنبعث منها نفحات حب ، إنما أنفـاس مـوت . وقد جاءت الفرصة لتأكيد ذلك ، بعد شهور ، في عصر يوم ذهبت فيه ريميديوس الجميلة ، مع جماعة من صديقاتها ، لزيارة ..........
من رواية ( مئة عام من العزلة )
للكاتب غابرييل غارثيا ماركيز، نشرت عام 1967 وحصل بها على جائزة نوبل للآداب.
|
|
التعديل الأخير تم بواسطة ستوكا ; 13-03-2022 الساعة 06:20 PM
|