أثر الصيام في حياة الفرد والجماعة
أثر الصيام في حياة الفرد والجماعة
الصوم لغة هو الإمساك، ومنه قوله تعالى حكاية عن مريم: "إني نذرت للرحمان صوما" (سورة مريم، الآية 26) أي إمساكا. وهو شرعا: إمساك عن المفطرات على وجه مخصوص. وبعبارة أوضح: هو ترك شهوتي البطن والفرج من طعام وشراب ونكاح من طلوع الفجر إلى غروب الشمس طوال شهر رمضان، بنية التقرب إلى الله.
ولم يشرع الله الصوم تعذيبا للبشر وانتقاما منهم، بل فرضه لأسرار عليا، وحكم بالغة. وعلينا أن نتأمل حكمة الله من وراء هذا الجوع والعطش. وأن ندرك سره تعالى في الصوم حتى نؤديه كما أراده سبحانه.
ولو تتبعنا أسرار الصيام وآثاره لوجدناها كثيرة تتسع لها مجلدات، منها الأثر التعبدي والأثر النفسي، والصحي والاجتماعي، والأخلاقي. ونحن سنقصر الحديث على جانبين فقط هما الجانب النفسي والاجتماعي.
ولعل الآثار النفسية للصوم تتمثل في كونه مدرسة إيمانية عملية تزكي النفس وتمدها بطاقة نفسية كبيرة تقوي صلة الصائم بربه، وتصفي روحه بشكل يجعله طَيِّعاً للخيرـ مُبتعدا عن الشر؛ ذلك أن الإنسان عندما ينوي الصوم يعرف أنه يقبل على الله بهذه الطاعة التي هي سر خفي بينه وبين مولاه، فيظل نهاره خاشعا موصول القلب بالله سبحانه وتعالى.. ويُقبل بنفس واعية على تلمس أسباب الخير المفضية إلى رضاه وثوابه الجزيل سبحانه.
أنه يلتزم العفة في كل شيء لأن صومه يُذكّره دائما برقابة الله عليه، ويدفعه للإقبال علىتنفيذ أوامره والابتعاد عما نهى عنه.
فقد "فرض الله الصيام ليتحرر الإنسان من سلطان غرائزه، وينطلق من سجن جسده، ويتغلب على نزعات شهوته، ويتحكم في مظاهر حيوانيته، ويتشبه بالملائكة"(1).
والصوم هو العبادة التي يتحقق فيها الإخلاص المجرد لله، يستحضر فيه الإنسان الصائم رقابة الله عليه لأنه أمانة بين المخلوق وربه، لا يطلع عليه إلا هو سبحانه. لهذا كان الصوم ثوابُه عظيم، يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي حكاية عن ربه: "كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به"(2).
والصوم في الإسلام ليس المقصود منه الجوع والعطش لذاتهما، بل ما يتبع ذلك من كسر للشهوة، وإطفاء لثائرة الغضب والطيش .. إنه وسيلة لغاية أسمى وأكبر هي تقوى الله كما قال سبحانه: "يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون" (البقرة، 183).
فحقيقة الصيام إذن أنه مدرسة سلوكية تُربي النفوسَ على التقوى وعلى طاعة الله سبحانه، فإذا لم يحصل للصائم شيء من ذلك لم يُبَال اللهُ بصومه .. وإذا وجدتَ صائما لم يرتفع به الصوم عما يُشينه، ولم ينهه عن الابتعاد عن إيذاء الناس بالقول أو بالعمل، فاعلم أنه غير صائم على الحقيقة وأن ليس له من صومه إلا الجوع والعطش، لأن الصوم لم تتشرَّبه نفسُه بعد.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه"(3).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أيضا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله عز وجل: "الصيام جُنة فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابَّه أحد أو قاتله فليقل: إني صائم، إني صائم"(4).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رُب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر"(5).
قال الإمام الغزالي عن صوم الصالحين الذي تتحقق فيه ثمرة الصوم المرجوة "إنه كف الجوارح عن الآثام وتمامُه بستة أمور: الأول غض البصر وكفه عن الاتساع في النظر إلى كل ما يُذم ويُكره .. والثاني: حفظ اللسان عن الهذيان والكذب والغيبة والنميمة والفُحش والجفاء والخصومة والمِراء. الثالث: كف السمع عن الإصغاء إلى كل مكروه لأن كل ما حَرُم قوله حرُم الإصغاء إليه، الرابع: كف بقية الجوارح عن الآثام من اليد والرجل عن المكاره، وكف البطن عن الشبهات وقت الإفطار .. الخامس: أن لا يستكثر من الطعام الحلال وقت الإفطار بحيث يمتلئ جوفه ... السادس: أن يكون قلبُه بعد الإفطار معلقا مضطربا بين الخوف والرجاء، إذ ليس يدري أيُقبل صومُه فهو من المقربين أو يُرد عليه فهو من الممقوتين"(6).
فالصوم المطلوب إذن هو صوم عن الآثام والمعاصي، صوم يُقرّب إلى الله ويحقق صفاء النفس وطهارة القلب.
إنه صوم يمد الروح بالشفافية والصفاء والإشراق والقرب من الله. فيصير الإنسان الصائم "ملائكي" الطبع، "نوراني" الخواطر، "رباني" السلوك يذوق حلاوة العبادة، ويُحس مباهج الورع ولذته ويشعر أنه قريب من ربه، ولذلك يقول الله تعالى مباشرة بعد أن أمر المؤمنين بالصيام: "وإذا سألك عبادي عني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان، فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون" (البقرة، 186).
فكأن انتظام الآيات على هذا الترتيب: الصوم ثم القرب من الله ينبه الإنسان إلى أنه إذا أتقن صومه فقد تهيأ لمناجاة ربه.
ويذكر القرآن أن الله لما أراد مكالمة موسى هيأه لهذا المقام الرفيع بأن أمره بصيام أربعين يوما، فقال تعالى: "وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة" (الأعراف: 142).
فلما تهيأت نفس موسى لخطاب ربه وتحمل أنواره –وذلك بالصيام- أفاض الله عليه أنواره الربانية وكلمه بلا واسطة: "قال –أي الله سبحانه- يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالتي وبكلامي، فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين" (الأعراف، 144).
من هنا يتبين سر ارتباط صوم رمضان بنزول الوحي الإلهي على سيدنا محمد عليه السلام. فقد قال الله سبحانه: "شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس" (البقرة، 185).
ولذلك كان شهر رمضان شهر تلاوة القرآن، وشهر العبادة التي بواسطتها يطهر الإنسان نفسه من فاحش القول وسيء الأفعال، وينال بذلك رضى الله وغفرانه. فالصيام الصحيح هو نقطة تحول في سلوك الإنسان، به يتطهر من الذنوب، وبه يلتزم طاعة الله والقربى منه. ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه"(7).
|