الطبيب النفسي سيدخلك في الدوامة! فاحذرْ منه!!
الطبيب النفسي سيدخلك في الدوامة! فاحذرْ منه!!
وَ هذا أيضا واحد من المفاهيم التي يُـرَوِّجُ لها الكثيرون من الناس في مجتمعاتنا و المقصود بالدوامة غير واضح دائمًـا في ذهن من يرددون هذه المقولة ، فهذه عبارة تقالُ غالبا على لسان ناصح أمين لمريضٍ أرغمته معاناتهُ النفسية على الإفصاح عن رغبته في زيارة الطبيب النفسي فبدأ يستشيرُ أهله أو أصدقاءهُ و ربما سألهم مثلا لمن من الأطباء النفسيين يتجه ؟ فينصحُـهُ الناصحون بألا يفعل لما يعنيه وينطوي عليه ذلك من تبعاتٍ لزيارة الطبيب النفسي و التردد عليه فهم أي الناصحون يخافون عليه من دوامة الطب النفسي !!!
و حسب ظني فإن هذا المفهوم المخالف للحقيقة إنما هو مستنبطٌ من أفكار أخرى تجمَّـعْتْ في أذهان الناس بعضها مستمد من الأفلام السينمائية الأجنبية القديمة و بعضها من حكايات الناس عن المريض الذي لا يشفى !! و يظل مترددا مستديما على الطبيب معتمدا عليه و بعضها من الأفلام العربية الجميلة التافهة التي تسلينا و تعيقُ عقولنا عن معرفة الواقع للأسفْ !
و أذكر هنا ما سمعته من أستاذي الأستاذ الدكتور أحمد عكاشه و هو يحكي لنا عن أهمية فحص المريض النفسي فحصا باطنيا عضويا مهما كانت الأعراض متطابقة مع أعراض الاضطرابات النفسية المعروفة للطبيب النفسي نظرًا لأن ذلك لا ينفي وجود اضطراب عضوي ربما كان هو السبب الأصلي وراء الأعراض النفسية فيقول أنه في الكثير من الحالات التي يكتشف فيها مرضا عضويا في مريضه فيرسله إلى أحد زملائه من أساتذة الطب الباطني العام أو فروعه الخاصة يفاجئه أن زميله الأستاذ يقول للمريض و ما الذي جعلك تذهب للطبيب النفساني" احمدْ ربنا" أنه لم يدخلك في الدوامة ! و في أحيان أخرى " ألا تخاف أن يتسبب في ضياع عقلك ؟؟"
أما أنا كطبيبٍ نفسيٍّ فطالما حاولتُ البحثَ عن هذه الدوامة التي يفترض المفهوم أنني أديرها و أدخلُ مرْضاي فيها فلم أجدْها في الحقيقة و إنما وَجَـدْتُ في حديثٍ لأستاذي الأستاذ الدكتور منير حسين فوزي إشارة لما أظنُّـهُ الدافعَ وراء هذا الادِّعاء على الطب النفسي ذلك أن موضوع الطب النفسي كموضوع علم النفس إنما هو موضوع يتصل بالنفس البشرية و هذه المواضيع بطبيعتها تثيرُ لدى الناس مشاعرَ متضادة من الرغبة في معرفتها و الخوف من معرفتها في ذات الوقت و من الحب لأنها تعطى الإنسان راحة بتفسيرها لأسبابِ مشاعره و سلوكه و من الكرْهِ في نفس الوقتِ لأنها تواجِـهُـهُ بما لا يحب أن يعرف عن نفسه و هذا الكلام كما ينطبق على الخاص وهو الإنسان المفرد أو الأسرة ينطبق على العام و هو المجتمع كله ، فلدى الإنسان دائما ما يحب أن يخفيه حتى عن نفسه و العلاج النفسي الناجح هو الذي يستطيع الطبيب النفسي فيه أن يبصر مريضه بكل ما يمكن من الجوانب المخبَّـئَـةِ من تكوينه النفسي ، بحيث يستطيع التعاملَ معها بوعْيّ و إدراكٍ كاملين و يتوافق في نهاية المطاف مع حياته و ينطبق نفس الكلام بالطبع على الأسرة كلها .
و هنا حسب ظني منشأُ الدوامة التي يدَّعون فهم يقصدون أن الطبيب النفسي سيدخل أمورًا يرونها لا علاقة لها بأعراض المريض و يتدخل بأسئلته فيما يعتبرونه أسرارًا تخص المريض أو الأسرة و لست أدري إلى أيِّ مدًى سيستمُـرُ تحفُّظُ مجتمعِـنا هذا الذي يصل إلى حد إخفاء معلومات على جانب كبير من الأهمية بالنسبة للطبيب النفسي كتاريخ المرض النفسي في العائلة مثلا أو في المريض نفسه و هذا التاريخ المرضي له بالطبع انعكاسات في منتهى الأهمية على أشياء كمدة العلاج الدوائي و غيرها الكثير لكن الناس عندنا يخفون ما أمكنهم الإخفاء ! و إن كان إلحاح الطبيب و إصراره على معرفة ما يخفونه كثيرًا ما يدفع واحدًا مستنيرًا من أهل المريض أن يسر في أذنه " بالسر الخطير " !
الدوامة إذن هي وهم لا أساس له من الصحة لأن الطبيب النفسي إنما يهتم بكل ما يفيد في تشخيص أو علاج حالة مريضه أو حتى تكوين أو إعطاء فكرة عن رأيه أو توقعه لمآلها المرضي.
فإذا أردنا أن نستشهد بما نسمعه من الكثيرين من مرضانا الذين لا يصلون الطبيب النفسي إلا بعد جولة طويلة بين الأطباء في التخصصات المختلفة مع أن اضطرابهم يكون نفسيا لكن أعراضهم تأخذ شكلا عضويا ؛ و لأضرب مثلا بمريض نوبات الهلع فما يحكيه هذا المريض لطبيبه النفسي من تكليفه عبء عشرات التحاليل و الفحوص بالأشعة و رسومات القلب العادية و بالمجهود و الموجات فوق الصوتية و أحيانا قسطرة القلب إلى آخره ....
و قد تجول و تحول من طبيب إلى آخر و معظمهم يطلب الفحوص الجديدة ولا تعجبه فحوصُ من قبله ! ثم يكتب بعض المهدئات و يتناولها المريض ولكنه لا يتحسن إلا قليلا و يظل متنقلا من طبيب إلى طبيب إلى أن يهدِيَ الله أحدَهم و يخبِرُ المريض على استحياءٍ بأنَّ حالته نفسية وتحسن استشارة الطبيب النفسي ؛ بالرغم من كل ما سبق لم يتهم أحد أطباء الباطنة مثلا بأنهم يدخلون المريض في الدوامة .
|