بيانٌ في الواجب على المسلمين تجاه ما نشرته بعض الصحف الدنماركية
بيانٌ في الواجب على المسلمين تجاه ما نشرته بعض الصحف الدنماركية والأوروبية في حق النبي صلى الله عليه وسلم
الشَّيْخِ عَبْدِ العَزِيْزِ بْن ِ فَيْصَل الرّاجِحِيّ
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين ، وخيرة الخلق أجمعين ، نبينا وسيد ولد آدم ، محمد وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين ، وبعد :
فإن أعظمَ نعمة أنعمها الله على العالمين ، بعثتُه المرسلين لبيان حَقّ رَبّ العباد أجمعين ، (فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّيْنَ مُبَشِّرِيْنَ وَمُنْذِرِيْنَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الكِتَابَ بِالَحقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيْمَا اخْتَلَفُوْا فِيْهِ مِنَ الَحقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيْمٍ) ، (رُسُلاً مُبَشِّرِيْنَ وَمُنْذِرِيْنَ لِئَلَّا يَكُوْنَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) .
فكان أعظم الناس حَظًّا ، وأتمَّهم سعادةً مَنْ آمن بهم ونصرهم وعزَّرهم ، وكان أشقى الناس وأتعسهم مَنْ كفر بهم ، وقاتلهم ، وأستهزأ بهم وبما جاءوا به . قال سبحانه : (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِيْنَ كَفَرُوْا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ). وقال : (وَمَا نُرْسِلُ الُمرْسَلِيْنَ إِلَّا مُبَشِّرِيْنَ وَمُنْذِرِيْنَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُوْنَ . وَالَّذِيْنَ كَذَّبُوْا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ العَذَابُ بِمَا كَانُوْا يَفْسُقُوْنَ) .
وأوجب سبحانه وتعالى لأنبيائه ورسله الكرام حقوقا عظيمة على أُمَـمِهم ، مِنَ الاتِّباع والسمع والطاعة والمحبة فوق محبة النفس والمال والوالد والولد ، والنصرة والتعزير والتوقير والتصديق والتعظيم .
ثم جعل أعظمهم حَقًّا ، وأتمَّهم قَدْرًا ، سيد الثقلين ، وخيرة الأولين والآخرين ، خليله وكليمه ، محمد بن عبد الله صلى الله عليه وعلى آله أتم صلاة وأتم سلام .
وأخبر عباده المؤمنين بأن نبيه محمدا له عنده المقام المحمود المُعظَّم ، وأنه خليله المُكرَّم ، وصفيه الُمكلَّم ، أُعرج به إليه ، وسمع من ربه كلامه وما أُوحيَ عليه ، وأنه شفيع العباد يوم المعاد ، وأنه شفيعهم يومئذ عند امتناع الأنبياء والرسل عن الشفاعات ، واعتذارهم ببعض الأمور والزَّلَّات ، فيقوم بين يدي ربه داعيا متضرعا ذليلا ، فَيُكْرِمُ رَبُّهُ مقامَهُ عنده ، ويقول له أمام أنبيائه وسائر خلقه « ارْفَعْ رَأْسَكَ ، وَسَلْ تُعْطَ ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ » .
وأخبر سبحانه عبادَهُ مُـمْتَنًّا عليهم ببعثتِه إيَّاه لهم : أنه على خلق عظيم ، وأنه رؤوف بهم ورحيم ، يُعْنِتُهُ ما يُعْنِتُهُمْ ، ويَسُرُّهُ ما يَسُرُّهُمْ ، فما دعى لهم إلا بالهداية والرشاد ، وإنْ تمادوا عليه بالتكذيب والعناد .
وأخبر أنه صلى الله عليه وسلم أولى من المؤمنين بأنفسهم ، فَمِنْ حَقِّهِ أَنْ يُوقى بالأنفس والأموال ، وأَنْ يُقَدَّمَ على كُلِّ حال ، كما قال سبحانه : ( مَا كَانَ لِأَهْلِ الَمدِيْنَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوْا عَنْ رَسُوْلِ اللهِ وَلَا يَرْغَبُوْا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ) .
فَعُلِمَ أَنَّ رغبة الإنسان بنفسه أَنْ يصيبَهُ ما يصيب رسولَ الله صلى الله عليه وسلم من المشقة معه حرام .
ومِنْ حَقِّهِ صلى الله عليه وسلم : أن يكون أحبَّ إلى المؤمن من نفسه وولده وجميع الخلق ، كما دَلَّ على ذلك قوله تعالى : (قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) .
وقال صلى الله عليه وسلم :«لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُوْنَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِيْنَ» أخرجاه في«الصحيحين» .
فصلى الله عليه صلاة دائمة ما دامت السموات والأرض ، وسَلَّمَ عليه سلامًا ما تعبَّد اللهَ المؤمنون بنفل أو فَرْض .
فَصْلٌ
ثم إني قد اطلعتُ قبل أيام على ما نشرته صحيفة « يولاند بوستن » ( Jyllands-Posten ) الدنماركية ، يوم الجمعة ( 26/8/1426هـ -30/9/2005م ) من طعن في النبي صلى الله عليه وسلم ، واستهزاء به وإلحاد ، بنشرهم اثني عشر رسما كاريكوتيرا ساخرا بالنبي صلى الله عليه وسلم ، واستمرت في نشره أسبوعا بعد ذلك ! ثم أعادت عدة صحف أوروبية نشر هذه الرسوم هذا الشهر والذي قبله مرَّة أخرى .
وفي هذا محادَّةٌ لله ورسولِه صلى الله عليه وسلم ، ومحاربةٌ وإيذاءٌ ، وقد قال جَلَّ وعلا في المؤذين له ولرسله : (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً) .
وقال : (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ . كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) ، وقال : (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ) .
وقال تعالى : (أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ) .
وقد أوجب الله جَلَّ وعلا على المسلمين كافَّة حقوقا وواجبات في شأن الُمعادين له ولرسله صلى الله عليهم وسلم ، من إيذانهم بالحرب والعداوة والبغضاء .
وجعل حكم سَابِّ رسوله صلى الله عليه وسلم القتل ، سواء كان مسلما أو كافرا ، تاب من سَبِّهِ أم استمر في غَيِّهِ ، بل حتى لو كان السّاب كافرا فأسلم لم يعصم ذلك دمَهُ ، وإنْ قُبِلَ منه إسلامُه ، لذلك يُقتل دون استتابة .
وقد قَرَّرَ هذا كُلَّهُ شيخُ الإسلام أبو العباس أحمد ابن تيمية رضي الله عنه أتمَّ تقرير في كتابه العظيم الكبير «الصارم المسلول ، على شاتم الرسول صلى الله عليه وسلم » ، واستدلَّ عليه بأدلة كثيرة من الكتاب والسنة والإجماع ، وساق فيها ما لا يستطاع دفعه .
قال شيخ الإسلام في أوله (ص3) : (المسألة الأولى : أن مَنْ سَبَّ النبي صلى الله عليه وسلم من مسلم أو كافر : فإنه يجب قتله . هذا مذهب عليه عامة أهل العلم ، قال ابن المنذر :«أجمع عوام أهل العلم على أن حَدَّ مَنْ سَبَّ النبي صلى الله عليه وسلم القتل» ) .
وقد حكى الإجماع غير واحد من الأئمة ، منهم أبو بكر الفارسي من أصحاب الشافعي ، وإسحاق بن راهوية ، والخطابي ، ومحمد بن سحنون .
وقال (ص253) : (المسألة الثانية : أنه يتعين قتلُه ، ولايجوز استرقاقُه ، ولا المَنُّ عليه ولا فداؤه) .
وقال (ص300) : (المسألة الثالثة : أنه يُقتل ولا يُستتاب ، سواء كان مسلما أو كافرا . قال الإمام أحمد في رواية حنبل :«كل مَنْ شتم النبي صلى الله عليه وسلم وتنقَّصه مسلما كان أو كافرا : فعليه القتل ، وأرى أَنْ يُقتل ولا يُستتاب » ) .
ثم قال : ( وقال عبد الله : سألت أبي عَمَّنْ شتم النبي صلى الله عليه وسلم يستتاب ؟ قال :«قد وجب عليه القتل ولا يستتاب ، خالد بن الوليد قتل رجلا شتم النبي صلى الله عليه وسلم ولم يستتبه » ) .
ثم قال (ص301) : (وقال القاضي في«خلافه» وابنُه أبو الحسين : «إذا سَبَّ النبي صلى الله عليه وسلم قُتل ، ولم تقبل توبتُه ، مسلما كان أو كافرا ، ويجعله ناقضا للعهد ، نَصَّ عليه أحمد») .
ثم قال (ص303) : ( وقد صرح بذلك جماعة غيرهم ، فقال القاضي الشريف أبو علي بن أبي موسى في«الإرشاد» وهو ممن يُعتمد نقلُه :«ومَنْ سَبَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قُتل ، ولم يُستتب ، ومَنْ سَبَّهُ من أهل الذمة قُتل ، وإِنْ أَسْلَمَ» .
وقال أبو علي بن البَنَّاء في«الخصال والأقسام» له : «ومَنْ سَبَّ النبي صلى الله عليه وسلم وَجَبَ قتلُه ، ولا تُقبل توبتُه ، وإن كان كافرا فأسلم فالصحيح من المذهب أنه يُقتل أيضا ، ولا يستتاب » قال : « ومذهب مالك كمذهبنا » ) .
فَصْلٌ
ولما كان هذا متعذرا اليوم على المسلمين لضعفهم وتفرقهم أَنْ ينالوا من أعدائه والمستهزئين برسله ، ولتسلط أعدائهم عليهم بذنوبهم : كان الواجب على كُلِّ مسلم في هذا بقدره وبحسبه ، إعذارا إلى الله وبراءةً منهم إليه . قال سبحانه (لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) ، وقال : (فَاتَّقُوْا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : « إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوْا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ » .
لذا فالواجب اللازم على المسلمين اليوم : إنكارُ هذا المنكر العظيم ، كُلٌّ بما خَوَّلَهُ الله وولَّاهُ ، فالواجب على ولاة أمور المسلمين قَطْعُ صِلَتِهم بهذه الدولة الُمحادَّة . والواجب على عموم المسلمين تجارا وغيرهم مقاطعة سلعهم وبضائعهم . ليذوقوا وبال أمرهم ، وليحصل بين شركاتهم وتجارهم وعموم شعبهم وبين حكومتهم الراضية بما نُشِرَ شقاقٌ ونزاعٌ بسبب جنايتهم عليهم ، قال تعالى : ( لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) .
وقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ) .
وليس لهذه المقاطعة غاية تنتهي إليها ، إلا بمحاسبة تلك الصحيفة ومسؤوليها ، ورسَّامي الرسوم وكُلّ ذي صلة بها ، ومعاقبتهم عقوبة حاسمة رادعة .
أَمَّا ما ينادي به بَعْضُ الُجهَّال ، من أن تكون غايةُ المقاطعة اعتذارَ الحكومة الدنماركية أو الصحيفة : فليس من الحق ولا العقل في شيء ! وحكمٌ لم يشرعه الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم . وهذه الجناية حَقٌّ عظيم لله عزَّ وجلَّ ، ليس لأحد أَنْ يتنازل عنه ، أو يُعلن المسامحة .
قال شيخ الإسلام في «الصارم المسلول» (ص226) : (إن النبي صلى الله عليه وسلم كان له أَنْ يعفو عَمَّن شتمه وسَبَّهُ في حياته ، وليس للأمة أَنْ يعفوا عن ذلك) .
ثم قال (ص293) : ( ومما يوضح ذلك : أنَّ سَبَّ النبي صلى الله عليه وسلم تعلَّق به عدة حقوق : حَقّ الله سبحانه من حيث كَفَرَ برسوله صلى الله عليه وسلم ، وعادى أفضل أوليائه ، وبارزه بالمحاربة ، ومن حيث طعن في كتابه ودينه ، فإن صحتهما موقوفة على صحة الرسالة .
ومن حيث طعن في ألوهيته ، فإنَّ الطعن في الرسول طَعْنٌ في الُمرْسِل ، وتكذيبَه تكذيبٌ لله تبارك وتعالى ، وإنكارٌ لكلامه وأمرِه وخبرِه وكثيرٍ من صفاته .
وتعلَّق به حَقُّ جميع المؤمنين من هذه الأمة ومن غيرها من الأُمم ، فإنَّ جميع المؤمنين مؤمنون به ، خصوصا أمته ، فإن قيام أمر دنياهم ودينهم وآخرتهم به ، بل عامة الخير الذي يصيبهم في الدنيا والآخرة بوساطته وسفارته ، فالسَّبُّ له أعظم عندهم من سَبِّ أنفسهم وآبائهم وأبنائهم وسَبِّ جميعهم ، كما أنه أحبُّ إليهم من أنفسهم وأولادهم وآبائهم والناس أجمعين . وتعلَّق به حَقُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم من حيث خصوص نفسه) اهـ .
يتبع
|