عرض مشاركة واحدة
قديم 18-10-2006, 02:12 AM   #8
اصالة مصرية
عضو نشط


الصورة الرمزية اصالة مصرية
اصالة مصرية غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 18661
 تاريخ التسجيل :  09 2006
 أخر زيارة : 26-10-2006 (06:22 PM)
 المشاركات : 157 [ + ]
 التقييم :  10
لوني المفضل : Cadetblue


وَيُلاحَظُ منها أمرانِ ضَروريان:
الأوَّل: كانَ غِناؤُهم فيما دلَّت عليهِ النصوصُ المفسرَةُ مما تقدم إنما يَقَعُ بالمباحِ من القول، كَغِناءِ بُعاثٍ المذكورِ في حَديثِ عائِشَةَ.
قالَ الخطَابي: "والعَرَبُ تُثْبِتُ مآثِرَها بالشعرِ، فتُرويها أولادَها وعَبيدَها، فيكثُرُ إنشادُهم لها وروايَتُهم أياها، فيَتَناشَدُهُ السامرُ في القَمراء، والنادي بالفِناءِ، والساقِيَةُ على الرُّكِي والآبارِ، ويترنمُ به الرفاقُ إذا سارَت بها الرٌكابُ، وكُلُّ ذلكَ عندَهم غِناء، ولم يُرد بالغِناءِ هاهُنا ذِكْرُ الخَنا والابتِهارُ بالنساءِ والتَعريضُ بالفَواحِشِ، وما يُسميهِ المُجَّانُ وأهلُ المواخيرِ غِناءً".
قلتُ: ولما غنت الجارِيَةُ فقالَت: (وفينا نَبي يَعْلَمُ ما في غَدِ)،
قال النبي "ص" : (لا تَقولي هَكذا، وقولي ما كنتِ تَقولينَ "، فهذا إنكار منه "ص" للغِناءِ بما هُوَ مُنكَرٌ من القول، فما يَلْحَقُهُ وَصْفُ التكارَةِ من القول والشعْرِ فلا يَجوزُ الغِناءُ بهِ.
الثاني: أنَّه قَليل ليسَ بكَثيرِ غالبِ، ولذلكَ جاءَت النصوصُ فيهِ إمٌا في المناسَباتِ كالعيدِ والعُرس، اْو في أحوالِ عاديةٍ قَليلَةِ، كقصة النَّاذِرَةِ وحديثِ السائبِ والغِناءِ في السفَرِ، وما كانَ بهذهِ المثابَةِ في القلَةِ في حَياةِ الأمَةِ في عَهدِ التشريعِ، فإنه يدل على أنَّ الإكثارَ منه غيرُ مَرغوبٍ ولا مَطلوب.
والأصل في الحياةِ الجد، وأما اللهوُ فالأصل فيهِ أن يكونَ قليلَا لا غالباً يَطغى على الجِد أو يُضاهيهِ، بل ما يُؤخَذُ به منه فإنما هو لدَفْعِ السآمَةِ والملَلِ، ولا يَحصُلُ ذلكَ إلَّا من مُواصَلَةِ الجد، فدل على أنه الأصل، فيأتي حَط التقسِ من اللهوِ بالقدر الذي تَعودُ معًهُ إلى الجدِّ أقوَى وأمكَنُ مما كانَت عليهِ، والتاسُ في هذا مَنازِلُ.
ولمَا كانَ هذا الأصل هوَ الغالبَ على حياةِ الجيلِ الأول، لم يعرف عنهُم الإقبالُ على الغِناءِ أو غيرِه من الملاهي إلا بالقدر اليَسيرِ الذي يُذكَرُ وُيحصَرُ، وعُرِفَ الإكثارُ منهُ والإغراقُ فيهِ في أهْلِ الرفاهيَةِ والدعَةِ، وَمن وَجَدُوا في الحياةِ فُسْحَةَ احتاجُوا إلى مَلئها باللهوِ، الذي قد يَتضَم إلى بَعْضِه مِنَ المخالَفةِ ما يفوت مَصالحَ الآخرَةِ: بتركِ الواجِباتِ، وفعلِ المحرمات.
وليسَ ذلكَ مَقصوراً على اللَّهو بالغِناءِ، بل هُوَ في كُلِّ لَهوِ مُباح في أصلهِ، فإن الإكثارَ منه إسرافٌ مَذمومْ، آكَدُ في ذمه من الإسرافِ في الطعامِ والشَّرابِ، إذ الإسرافُ في الطعامِ والشراب قد يَسْهلُ فيهِ على الإنسانِ أن يُدرِكَ الضَرَرَ بالزيادَةِ، بخلافِ اللهوِ، وَما كانَ على هذا الوصف فلا يَخلو من تَحريك النفس إلى مَعصيَةٍ ، أو صَدها عن طاعَةِ، على أدنى الدرَجاتِ.
واعلَم أن بعضَ العلماءِ لمبالغتِهِ في التحريمِ في هذهِ القضيةِ اجتهَدَ لتأويلِ الاْحاديثِ المتقدمةِ على وُجوهِ، قَصَدَ بها دَفْعَ الناسِ عن الغِناءِ المعهودِ من أهْلِ الفَسادِ، وهذا القصد صَحيح مَطلوب، لكن من غيرِ حاجَةِ إلى تكلفِ الرَد والجواب، وَيكفي أن يُضبَطَ الغِناءُ المباحُ بِما يَعودُ إلى الكلامِ المغنى بهِ، فإن الكلامَ الحسَنَ والقَبيحَ قد يًقَعُ في أي غناء، في غِناءِ الحادي وصَوتِ المُطرِبِ الفنانِ.
وَمِما أرى الخطأ فيه: قولُ مَن يَحمِلُ لفظَ (جارَية) أو (جَوارِ) الواردِ في بعضِ الأحاديثِ المبيحَةِ للغِناءِ، على أنهن صَغيراتٌ في السنِّ غيرُ بالغات، فإن هذا مع احتِمالهِ في بعْضِ تلكَ الأحاديثِ، إلا أن بعضَها الآخَرَ لا يَحتَمِلُ مثلَ هذا التأويلِ، فالجارَيةُ غيرُ البالغ لا تؤاخَذ، فكيف صَح لأبي بكرٍ أن يُتكِرَ عليهنَّ وهُن غيرُ مُكلفات؟ والقَينَة المغنيَةُ لبَني فُلانِ لم توصَف بكَونها جارَية، بل المعروفُ في استِعمالِ هذا الوصف: أنها الأمَةُ ائَتي تُعَد للغِناءِ، وكذلكَ في قصة حمزة، وأنجَشَةُ لم يَقُل أحد: كانَ صبيا لم يَبلُغ، ولا في شىِء من الرواياتِ، والناذِرَةُ في حَديثِ بُرَيْدَةَ جاءَ في بعْضِ الرواياتِ المفسرَةِ انها امرأة، والأشبَهُ في وصفها بالجاريَةِ أنها مَملوكَةْ، ولو كانَت طِفلَة لَساغً أن لا يأذَنَ لها النبي "ص" بالوَفاءِ بالنَّذرِ، لأنها لا يلحَقُها حينئذِ التكليفُ، إلى غيرِ ذلكَ من الوُجوهِ الدالةِ على ضَعْفِ هذا التأويلِ، فإنه إن احتُمِلَ لقائلهِ في موضِع فلا يَستقيمُ لهُ في سائرِ المواضِعِ، وإنما الصوابُ أن يُلاحَظَ ما تقدم استِفادَتُهُ من دلالاتِ هذِهِ الأحاديثِ في الغِناءِ.
وَيَتضافُ إلى ما تقدم مما يُستفادُ من دَلالَةِ هذهِ الأحاديثِ ما في قصة أنجَشَة أنه كانَ يَحدو للنساءِ مَعَ حُسْنِ صَوتِهِ، فهذا يدلُّ على إباحَةِ سَماعِ المرأةِ لغِناءِ الرجُلِ، وفي غيرِ قصة أنجَشَةَ سَماعُ الرَّجُلِ لغِناءِ المرأةِ.
والمقصودُ: دلالَةُ النصوصِ على ان اختِلافَ الجِنسَينِ: المغني والمغنى له، ليسَ مما يؤثرُ في الحُكمِ في دَلالاتِ النصوصِ.

وأما مَعنى قولِهِ "ص" لأتجَشَةَ: "وَيحَكَ يا أتجَشَةُ، رُوَيداً، سَوْقَكَ بالقَواريرِ"، فهَل هُوَ من أجل دَرءِ الافتِتانِ بصَوتِ المغني، أم أرادَ منه التخفيفَ من حِدائِهِ لئلاً تُسرعَ الإبِلُ خَوْفاً على النساءِ من السقوطِ أو التضررِ باسراعِها؟
إلى كُل من القَولَينِ ذَهَبَ بعض العُلماءِ.
قالَ بعضهم: كان أتجَشَةُ يَحدُو بهن وُيتشِدُ شَيئاً من القَريضِ والرجَز وما فيهِ تَشبيب، فلم يأمَن اْن يَفتِنَهُن ويَقَعَ في قُلوبهن حِداؤُهُ، مَعَ حُسنِ صَوتِهِ، كما جاءَ في بعض الرواياتِ.
قالَ القاضِي عِياضٌ في هذا المعنى: هُوَاً أشبَة بمَقصَدِهِ ، وبمُقتَضى اللفظ ".
وَقالَ بعضهم: المرادُ بهِ الرفقُ في السيرِ، لأن الإبِلَ إذا سَمِعَت الحِداءَ أسرَعَت في المشيِ، واستَلذتهُ فأزعَجَت الراكِبَ وأتعَبَتهُ، فنَهاهُ عن ذلكَ؟ لأن النساءَ يَضعُقنَ عن شِدةِ الحرَكَةِ، وُيخافُ ضَرَرُهن وسُقوطُهن.
قلتُ: وهذا الثاني هُوَ الراجِحُ في التحقيقِ، وذلكَ لِما جاءَ في رِوَايَةِ ثابت البُناني الصحيحَةِ عن أنسِ، قالَ: فَحَدا، فأعْنَقَتِ الإبِلُ، فَقالَ رَسولُ اللّه "ص": ((يا أنْجَشَةُ، رُوَيداً سَوقَكَ بالقَواريرِ".
والإعناقُ: الإسراعُ في السيرِ.
فجاءَ قولُهُ "ص" المذكورُ مِن أجل إعناقِ الإبِلِ، وليسَ في شيءِ من الرواياتِ ما يُساعِدُ أن ذلكَ كانَ من أجل الخؤفِ عليهن من الافتِتانِ بصَوتِ المغني أو المنشِد، إذ لو كانَ الأمرُ كذلكَ لكانَ الأجدَرُ أن يُنهَى عن الحِداءِ أصلا، وهُوَ إنما امِرَ بالتخفيفِ لا بتَركِ الحِداءِ. وأما قول أبي قِلابَةَ عَبد الله بن يزيدَ الجَرميِ في روايَتِهِ للحديثِ عن أنَسٍ : تَكلمَ رَسولُ اللّه "ص" بكَلِمَةِ لو تكلَّمَ بها بعضكُم لعِبتُموها عليهِ، قولُهُ: "سَوقَكَ بالقَوارير"، فإنه عَنى تَسمِيَةَ النبي "ص" للنساءِ (قَواريرَ).


 

رد مع اقتباس