عرض مشاركة واحدة
قديم 18-10-2006, 02:28 AM   #18
اصالة مصرية
عضو نشط


الصورة الرمزية اصالة مصرية
اصالة مصرية غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 18661
 تاريخ التسجيل :  09 2006
 أخر زيارة : 26-10-2006 (06:22 PM)
 المشاركات : 157 [ + ]
 التقييم :  10
لوني المفضل : Cadetblue


الخاتمة
إن خَيرَ السماعِ وأجله وأنفَعَه للإنسانِ سَماعُ القرآنِ والعلمِ، والسَّعيدُ من وُفقَ إلى أكبَرِ نَصيب منهُ، يُسمِعُهُ غيرَهُ وَيسمَعُهُ من غيرِه، لكن الصبرَ عليهِ من بابِ الصبرَِ على العِبادَةِ المحضَةِ، فذلكَ تَعجِزُ عنهُ نَفْسُ الإنسانِ، إلا أن يَكونَ في مَقامِ النِّبيًينَ، وليسَ كَذلكَ حالُ عامةِ الناسِ، ولِذا لا تَرى إتساناً يَخلو من تَرفيه بمُباحٍ ، يَدفعُ عن نَفْسِهِ بهِ ثِقَلَ التكاليفِ الدينيةِ والدنيويةِ.
وشَريعَةُ الإسلام السمحَةُ جاءَت بالسًعَةِ ورَفع الحَرَج في ذلكَ، رِعايَةَ لأحوالِ المكلفينً.
عَن حَتظلةَ الأُسَيًدي (وَكانَ من كُتابِ رَسولِ الله "ص") قالَ:
لَقِيَني أبو بَكرٍ فقالَ: كَيفَ أنتَ يا حَتظَلَةُ؟ قالَ: قلتُ: نافقَ حَتظَلَةُ، قالَ: سُبحانَ الله! ما تقولُ؟ قالَ: قلتُ: نكونُ عندَ رَسولِ اللّه "ص" يُذَكرُنا بالنارِ والجَنةِ، حتَّى كأنا رَأيُ عَينِ، فإذا خَرَجنا من عندِ رَسولِ الله "ص" عافَسنا الأزواجَ والأولادَ والضَّيعاتِ، فنَسِينا كَثيراً، قالَ أبو بَكرٍ : فَوالله إنا لنَلقَى مثلَ هذا، فاتطَلَقتُ أنا وأبو بكر حتى دَخَلنا على رَسولِ الله "ص"، قلت: نافقَ حَنظَلَةُ، يا رَسولَ الله، فَقالَ رَسولُ الله "ص": "وَما ذاكَ؟ "، قلتُ: يا رَسولَ الله، نكونُ عندَكَ، تُذَكرُنا بالنًارِ والجنةِ، حتى كأنا رَأيُ عَيني، فاذا خرَجنا من عندِكَ عافَسنا الأزواجَ وَالأولادَ والضيعاتِ، نَسِينا كَثيراً، فَقالَ رَسولُ اللّه "ص":"وَالذي نَفسِي بيَدِهِ، إن لو تَدُومونَ عَلى ما تَكونونَ عندِي وَفي الذكرِ، لصافَحَتكُمُ الملائكةُ على فُرُشِكُم وفي طُرُقِكُم، ولكن يا حنظلَةُ ساعَة وَساعَةَ" ثلاثَ مرات

وَعَن عائشةَ، قالَت: وَضَعَ رَسولُ الله "ص" ذَقَني على مَتكِبَيهِ، لأنظُرَ إلى زَفْنِ الحَبَشَةِ، حتَّى كنتُ التي مَلِلتُ فانصَرَقتُ عنهُم، قالَت: قالَ رَسولُ الله "ص" : "لتَعلَمَ يَهودُ أن فىِ دينِنا فُسحَة، إني أرسِلتُ بحَنيفِية سَمحَةِ".
فَسَماعُ الغِناءِ والموسيقَى من هذهِ الفسحَةِ، فللهِ الحمدُ على فَضلِهِ ورَحمَتِهِ بعِبادِهِ أن أقامَ هذا الدينَ على اليُسرِ والسعَةِ، لا كاليَهوديةِ دينِ المشقةِ والعَنَتِ، فوَيل لمن يُريدُ أن يَشُق على أمةِ محمدِ "ص" فيَحمِلَها على صِفَةِ ما شَددَ الله به على بَني إسرائيلَ، وَيصُد آخَرينَ عن دينِ الإسلامِ بتَضييقِهِ وتَشديدِهِ.
وَالعاقِلُ بطَبعِهِ لا يُقْبِلُ على اللهو بالغِناءِ وشِبهِهِ إلا إذا فَرَغَ مِن ضَرورياتِهِ وحاجاتِهِ، بل هُوَ آخِرُ كَمالياتِهِ.
قالَ ابنُ خَلدون في (صناعَةِ الغِناءِ): "لا يَستَدعيها إلا من فَرَغَ من جميعِ حاجاتِهِ الضروريةِ والمهمَّةِ، من المعاشِ والمنزِلِ وغيره، فلا يطلُبُها إلا الفارِغونَ عن سائرِ أحوالهم تفنناً في مذاهبِ الملذوذات".
وَأسعَدُ التاسِ حالا مَن جَعَلَ من تلكَ الملذوذاتِ سَبباً لتَعودَ النفسُ أقوَى على تحملِ الأعباءِ، لا قَتلاً للوَقتِ كَما يَقولُ المغبونونَ. والملَلُ والسآمَةُ من الإقامَةِ على حالِ واحِدَةِ طَبيعَةُ ابنِ آدَمَ، وَدَوامُ الجد لا تَحتَملُهُ نَفْس.
فعَن عائِشَةَ، عَنِ النبي "ص"، قالَ: (يا أيها التاسُ، عليكم من الأعمالِ ما تُطيقونَ، فإن اللّه لا يَمَل حَتى تَمَلُّوا ، وإن أحَب الأعمالِ إلى اللّه ما دُووِمَ عليهِ وإن قَل " .
وَمِما قيلَ في الحِكمَة: حَق عَلى العاقلِ أن لا يُشغَلَ عَن أربَع ساعات: ساعَة يُناجِي فيها رَبه، وساعَةِ يُحاسِبُ فيها نَفْسَهُ، وَساعَةِ يَخلو فيها إلى إخوانهِ الذينَ يُخبِرونَهُ بعُيوبِه، وَيصدُقونَهُ عن نَفسِه، وساعَةِ يُخلي فيها بينَ نَفسِهِ وبَينَ لذتِها فيما يَحِل وَيجمُلُ، فإن في هذهِ الساعَةِ عَوناً على هذهِ السَّاعاتِ، وَإجماماً للقُلوبِ.
وَكانَ السلَفُ يَسحبونَ أن يَجعَلُوا في المباحاتِ نِيةً تُصيرها قُربَة من جِهَةِ تلكَ النًية، فيَحتَسِبُ الثوابَ بتَحصيلِ شَهوَتِهِ وتَحقيقِ رَغبَتِهِ لِما يُحققُ له ذلكَ من تذكرِ نِعمَةِ اللّه، وشُكرِهِ على ما أولاهُ، وما يَجعَلُ منه زاداً لنَفسِهِ على الطريقِ، والآثار عنهُم في هذا كَثيرَة.
كَما قالَ مُعاذُ بنُ جَبَلٍ ، لما كانَ باليَمَنِ بَعَثَه إليها التبيُّ "ص" مَعَ أبي موسى الأشعَري:"أما أنا فأنامُ وأقومُ، فأحتَسِبُ نَومَتي كَما أحتَسِبُ قومتي".
وأصل ذلكَ من فعلهم يَحتَسبونَ الثوابَ على المباحِ، لما يُستَعانُ بهِ على الطاعَةِ نُصوص في الشرع، كَقوله "ص": (وفي بُضْعِ أحدِكُم صَدَقَة)، قالُوا: يا رَسولَ الله، أيأتِي أحدُنا شَهْوَتَهُ، ويكونُ لَهُ فيها أجر؟ قالَ: "أرأيتُم لَو وَضَعَها في حَرام، أكانَ عليهِ فيها وِزْر؟ فكذلكَ إذا وَضَعَها في الحَلالِ، كانَ لهُ أجر".
فاللهو المباحُ إذا كانَ لصاحِبهِ بهِ قَصد صَحيحْ مَشروع، كانَ ذلكَ القصد سَبباً في الثوابِ، كَما يكونُ عَوناً له على اتقاءِ الحرامِ عندَ مُلابَسَةِ ذلكَ العَملِ.
وَمن هذا الباب ما حدث بهِ المعرُورُ بنُ سُوَيدِ، قالَ: كَتَبَ عُمَرُ بنُ الخطابِ، "ر"، إلى أمَراءِ الأمصارِ أن: مُرُوا الناسَ في أيامِ الربيعِ بالخُروجِ إلى الصحراءِ، ليَتظُروا إلى النورِ، إلى آثار رَحمَةِ اللّه.
فهذهِ نُزهَة مُباحَة، فيها الأتسُ بالطبيعَةِ وجَمالِ الخَلقِ، وسَبَب في تذكرِ نعمَةِ اللّه.
فهكَذا التلهي بالغِناءِ أو استِماعِ الموسيقَى من التسلي بما يُحققُ دَفع الملَلِ، ويخرُجُ بالإنسانِ عن ثِقَلِ المداوَمَةِ على الجد، فتَعودُ النفسُ بعدَهُ إلى ما اعتادَت من العَمَلِ انشَطَ وأقوى مما كانَت عليهِ. وَمِن أحوالِ السلَفِ في ذلكَ، ما حدث بهِ أنَسُ بنُ مالكٍ ، قالَ: استَلقى البَراءُ بنُ مالكِ على ظَهرِهِ، ثَم تَرَنمَ، فَقالَ لهُ اْنَس: اذكُرِ الله، أي أخِي، فَاستَوَى جالساً، فَقالَ: أي أنَسُ، أتُراني اْموتُ عَلى فِراشِي وَقَد قَتَلتُ مئة منَ المشركينَ مُبارَزَةَ، سِوَى مَن شارَكتُ في قتلهِ؟
وَفي رِوايَة، قالَ أنَسٌ : دَخَلْتُ على البَراءِ بن مالكِ وهُوَ مُضطَجِعَ، وهُوَ يتغنى، وهُوَ يوتِّرُ قَوسَهُ، فقلتُ: يا سُبحانَ اللّه، الى متى هذا؟ قالَ: يا أنس، تَخافُ أن أموتَ على فِراشي؟ فواللّه لقَد قَتَلتُ بِضعاً وسَبعينَ سِوَى من شارَكتُ فيه، قالَ: فقُتِلَ يومَ تُستَرَ.
قالَ أبو نُعيمٍ الأصبَهانيُّ في (البَراء بن مالكِ): "كانَ طيبَ القلبِ، يَميلُ إلى السماعِ، وًيستلذ التَرنمَ ".
فتأمل مُراعاتَهُ لنَفسِهِ بالتسلي باللَّهوِ المباحِ، معَ ما له من الفَضلِ والخيرِ وسابِقَةِ البر، فاعتَبَرَ حَظ نَفسِهِ وساعَتَها، ولم يكُن ذلكَ مُناقِضاً شيئاً من صحةِ قصدهِ ولا صالحِ كَسبِهِ.
وليسَ من هذا في شيءٍ حالُ مَن يتوصلُ بالملاهي المباحَةِ إلى فعل السيئاتِ، فالمباحاتُ إذا اتخِذَت وَسائلَ للحرإمِ كانَت مَمنوعات، على ما حررتُهُ في هذا البابِ في حُكمِ الغِناءِ والموسيقَى، إذ حالُ من يَفعل ذلكَ أنه يَستَعملُ ما أريدَ عَوناً على طاعَةِ اللّه، وهُوَ عامةُ المباحِ، لمعصيَةِ اللّه.
والملاهي جُملَةَ هِيَ أكثَرُ ما يُتوصلُ بهِ إلى الشهواتِ الممنوعَةِ، وذلكَ لما تُكْسِبُهُ من الغَقلَةِ، من أجل ذلكَ يَجِبُ الاحتِياطُ للنفسِ والدين ، لئلا تَنساقَ النفسُ بغَفلَتِها إلى ما حرمَ الله.
وَفي واقعِ النَاسِ من الخُروجِ عن حُدودِ الإباحَةِ بمجرَّدِ التلهي بالغِناءِ والموسيقَى، شيءٌ كَثير، لكنه لم يوجِب فيما حررناهُ في هذا الكتابِ أن يَصيرً ما هُوَ مُباحٌ في الشرعِ حراماً لسوءِ إستِعمالِ الناسِ لهُ، وإنما الحُكمُ بالإباحَةِ ثابِتٌ ، وسوءُ الاستِعمالِ هُوَ محل المنعِ.
فحالُ من يُقيمونَ الحَفَلاتِ الخاصةَ على الشربِ والمتكَرِ، يُحضَرُ فيها المطرِبُ والمطرِبَةُ يُغنونَ ويَعْزِفون، فلا يَزيدُهم السماعُ إلًا نَشوَةَ وإغراقاً في المعصِيَةٍ ، فهؤلاءِ لا يُباحُ لهم ذلكَ السماعُ حتَّى لو كانَ بشعر الحِكمَةِ والزهدِ، من أجل استِعانَتِهم بهِ على مَعصيَةِ الله.
فاعتَبِر لكل شيءِ قدرهُ، واحذَر الغُلو في دينِ اللّه، كَما تَحذَرُ التقصيرَ فيهِ.


 

رد مع اقتباس