01-12-2006, 07:58 PM
|
#1
|
عضـو مُـبـدع
بيانات اضافيه [
+
]
|
رقم العضوية : 15722
|
تاريخ التسجيل : 01 2004
|
أخر زيارة : 25-05-2008 (09:06 PM)
|
المشاركات :
264 [
+
] |
التقييم : 52
|
|
لوني المفضل : Cadetblue
|
|
بين الزوجين
بين الزوجين
يا سادتي ويا سيداتي ، قعدت لأكتب هذا الحديث ، فما بدأت به حتى هبت العاصفة في بيت الجيران ، وعلت الأصوات ، وزمجر الرجل وصخب ، وولولت المرأة وعيّطت ، وقام الشيطان يهيج للشر ويضحك ، ثم هدأت العاصفة فجأة كما هبت فجأة ، وأعقبها سكون ثقيل ، سمعت له دوياً في أذنيّ شغلني عن الكتابة ، فقمت أنظر من شباكي الذي يكشف مكانهم ويبدي كلّ ما فيه . أنظر ماذا جرى .
فإذا الزوج قاعد في ركن المنزل ينظر في جريدته عابسًا ، ولا أظنه يفقه منها حرفاً ، والمرأة في الركن الآخر تطرز ولا أحسبها تلقي لتطريزها بالاًً ، وهو يندب حظه يحسب أنه وحده الخائب في زواجه ، وهي تبكي جدّها تحسب أنها وحدها التي فقدت سعادتها ، ورأيت الولد قد ملّ هذا السكون ... فمشى إلى أبيه خائفًا يترقب ،
فقال له :
- بابا . أعطني شكلاطة .
فصرخ به زاجراً : قل لأمك . أتريد أن أخدمكم في السوق وفي البيت ، وأن أعمل عمل الرجل والمرأة ؟!
فابتعد عنه الولد ، ونظر إلى أمه ،
فصاحت به من غير أن ترفع رأسها عن شغلها :
ابتعد عني وإلا كسرت رأسك ، أنت أصل السبب ، يا ضيعة تعبي ، أشقى من الصباح إلى المساء فلا أجد من يقول لي : الله يعطيك العافية !
فهمّ الرجل بالانفجار ، ثم تماسك وتجَلَّد، وسكت على غيظ ومضض ، ومشى الولد إلى الأريكة فتكوّم عليها ، ودس وجهه في وسادتها ، وراح يبكي بكاء خافتاً متصلاً موجعاً !
وعاد البيت ساكناً كما كان ، ومرت دقائق ، لمحت فيها على وجه المرأة ظلال نزاع عنيف في نفسها ، بين شفقتها على ولدها ، وغيظها من زوجها ، ثم رأيتها تثب فُجاءة ؟ فتمضي إلى غرفتها فتنبطح على سريرها وتنشج ... ويرفع الرجل رأسه ، متعجباً منها ، ويضيق صبره على هذه المسرحيات ( تمثل ) في بيته وهو يريده بيتاً فيه الهدوء والمحبة ولا يفهم سر بكائها وهي – عنده – الظالمة ، فيمضي إليها بعد تردد ، حتى يقوم أمام السرير منتصباً مربد الوجه ، كأنه القائد العسكري في جنده ، أو النائب العام في مقعده ،
ويقول لها بصوت بارد كالثلج متماسك كالجلمد :
- وما آخرة هذه المساخر ؟
وكانت تظنه قد جاء يواسيها في كربتها ، ويعطف عليها ، ويحاول أن يفهم ألمها ، ويزيح همها ، فلما سمعت ذلك منه ، فقدت عقلها ،
- فصاحت :
مساخر ؟
أنتم الرجال ليس عندكم وفاء ، ليس لكم قلوب ، إنكم .....
فنسي أنه أمام امرأة ، وأنه أمام زوجة ، وحسب أن الذي يقول له هذا الكلام قرن له أو خصم ، فأجابها جواب الأقران ، وكلمها كلام الخصوم ،
ولم يبق بينها وبين الطلاق إلا شعرة واحدة .
فذهبت إليهما فصحت بهما : بسّ ، انتظروا ، قولوا لي ما هي الحكاية ؟
فنظرا إليّ ، وحسباني ( وأنا قريبهما ) عفريتاً قد نبع من الأرض ففزعا منه ، ثم اطمأنا إليّ وعرفاني ، وانطلقا يتكلمان بصوت واحد كلاماً متواصلاً متداخلاً ، تتلاحق كلماته ، كأنه السيل انهدم سدّه فاندفع ، أو لسان النار غفلت عنه فاندلع ، وما فهمت الحكاية حتى كادت نفسي أن تزهق ...
و ( الحكاية ) التي سببت هذه النكبة ، وكادت تهدّ بيت الزوجية ، وتطلق الزوجة وتشرد الولد ، أنه جاء من عمله فوجد الصبي على الباب ، والباب مفتوحاً ، وليس عنده أحد يمنعه أن يمشي فيضلّ في الحارة ، أو تدعسه سيارة ، أو تلفحه الشمس ، أو يصيبه المرض ، وتخيَّل ألف مصيبة قد حاقت بالصبي ونزلت به فاستحال حبه له حنقًا على أمه التي أهملته ، وتركته على شفا الهلاك ، ودخل مغضبًا محنقًا ، وبدأها باللوم قبل السلام ، وكانت قد نظفت الدار وأعدت الطعام ، و( لبست .... ) تنتظر وصوله ، لتسعد بقربه ، وتجد مكافأتها في شكره إياها ومسرته منها ، فلما رأته مخاصمًا تبدد أملها ، وخاب ظنها ، وسيطر عليها الغضب ، حتى أعماها عن حادثة ( الباب المفتوح ) والخطر المرتقب ، فلم تر فيها إلا حادثة تافهة ، لم ينشأ عنها شيء ولم يأت منها ضرر .
وبدأ من هنا الخلاف ، وتطاير الشرر .
يا سادتي ويا سيداتي :
هذه صورة ترون كل يوم أمثالها ، فاسمحوا لي أن أجعل حديثي تعليقا عليها ، وبيانًا لها ، وليست صورة غريبة عنكم ولا نادرة ، بل الغريب النادر أن تخلو دار منها ؛ وأنا قاض شرعي عملي أن أرى دائما دخائل البيوت ، وأن أطلع على أسرار الأسر ، فصدقوني إذا قلت لكم :
إني لا أعرف زوجين لا يختلفان ، ولكن خلاف الأزواج كحريق في كومة من القش ملقاة في رحبة الدار ، إذا أطفأته أو تركته ينطفئ همد بعد لحظة ، وحمل الريح رماده ، فلم يرزأك رزءًا ، ولم يعقبك أذى ، وإن هجته أو أدنيت منه ثوبك ، أو قربته من بيتك ، أحرق الثوب وخرب البيت ،
ولقد كان بيني وبين زوجتي اليوم خلاف كهذا ، فقلت لها :
- تعالي أعينيني على كتابة مقالة ؟
وكانت هذه المقالات ضرَّتها ، فحسبتني أسخر منها ، واندفعت تريد أن ( تقول ) .... فما زلت بها أكلمها بجد ، حتى بدا عليها الاهتمام وقالت :
- وكيف أعينك ؟
قلت : تقولين لي كيف يختلف الأزواج ؟
ومضينا نستعرض حوادث الاختلاف بيننا ونحلِّل أسبابها فانتهينا إلى الضحك منها .
يا سادة ويا سيدات : إنه قد يكون بين الزوجين اختلاف مفهوم على مال أو عقار ، ولكنه نادر وأكثر الخلاف تافه مضحك ، ليس له إلا عندهما قيمة أو خطر ، وأنا أفهم أن تهتم المرأة بهذا ، وما دامت تريد أن تشغل عقلها كما تشغل يدها ، وما دامت لا تجد مشكلة علمية أو أدبية تبحث فيها وليس لها إلا مشاكل البيت – ولكن ما بال الرجل يهتم بها ويبالغ في تقديرها ؟
تقولون : كيف نصنع ليسود البيت السلام ويشمله الهدوء؟
أنا أقول لكم ؛ مقالة مجرب حكيم ، فاستفيدوا إن شئتم من حكمتي وتجربتي .
هذه ( أقراص ) سهلة البلع ، عظيمة النفع ، فيها شفاؤكم من هذا الداء :
أولها :أن الزواج يبدأ بالحب والعاطفة ، والحب أوله حلاوة وآخره مرارة ، فهو يعمي البصر ، ويصمّ الأذن ، ويغطي العيوب ، فإذا زال الغطاء ، ولا بد يوما أن يزول الغطاء ، وبدا المحجوب من العيوب ، وظهر المستور من الأمور وافتقد الزوجان لذة الحب فلم يجداها ، انتهى شهر العسل ، وبدأت سنوات العلقم ، فتجرعا العمر كله مرّها ، وقاسيا ضرّها .
والدواء ألا يرقب الزوجان المحبة والعشق ، فالحب عمره كعمر الورد ، لا يعيش إلا أمدًا قصيرًا ، ومن طلبه بعد عشر سنين من الزواج كان كمن يطلب من وسط القبر من العظام والرمم الغادة الحسناء والفاتنة الهيفاء . لا ، ولكن مودة وإخلاص وحب كحب الأصدقاء والإخوان .
وثانيها : أن الرجل يغتفر لصديقه ما لا يغتفر لزوجته ، ويحمل منه ما لا يحمل منها ، ويتسامح معه فيما لا يتسامح فيه معها ، وما ذلك إلا لأنه يصدق هذه الخرافة التي تقول إن الرجل والمرأة كليهما مخلوق واحد ، فهو يريد منها أن تفكر برأسه ، وهي تريد منه أن يحس بقلبها ، مع أن الناس كخطوط مستطيلة وفيها اعوجاج يسير ، فإذا كانت متباعدة بدت للعين متوازية متوافقة تضيع من البعد هذه الفوارق الصغيرة بينها ، فإذا تدانت وتقاربت ، بانت الفجوات ، فأنت تصحب الصديق عشرين سنة ، فلا ترى بينك وبينه اختلافًا ، ثم ترافقه أسبوعًا في سفر ، تنام معه وتأكل وتشرب فترى في هذا الأسبوع ما لم تره في السنين العشرين ، فتَشْنَؤه وتبغضه وقد كنت تحبه وتؤثره .
والله لم يخلق اثنين بطباع واحدة ، لا الصديقين ولا الزوجين ، فليكن الزوجان متباعدين قليلاً ، حتى لا يظهر الاختلاف بينهما وليكن بينهما شيء من الكلفة والرسميات .... كما يكون في عهد الخطبة وأوائل الزواج ، ولتكتم عنه بعض ما في نفسها ، فإنه ما تكاشف اثنان إلا اختلفا . ومازالت الكلفة إلا زالت معها الألفة ، لأن المرء يتظرف ليظرف ، ويتلطف ليلطف ، ويساير الناس ليحبه الناس ، فإن لم يفعل ثقل عليهم ، وأنا أعرف رجالاً من أهل النكتة والظرف ، يحرص الناس عليهم في مجالسهم لخفة أرواحهم ، وحلاوة أحاديثهم ، إذا دخلوا بيوتهم كانوا أجهم الناس وجهًا ، وأيبسهم لسانًا ، وأثقلهم نفسًا وما ذاك إلا لإسقاط الكلفة ، وإذهاب المجاملة .
وثالثها : أن الرجل يمشي في الطريق فلا يرى إلا نساء في أحسن حالاتهن قد طلين وجوههن ، وجمّلن ثيابهن ، ثم يدخل داره ، فيرى زوجه على شرّ هيئة ، وأقبح صورة : مصفرة الوجه ، قذرة الثوب ، منغمسة في أوضار المطبخ أو غارقة في غبار الكنس ، فيظن أن نساء الطريق من طينة غير طينتها ، وأن عندهن ما ليس عندها ، فيميل إليهن وينصرف عنها ،
والدواء أن تكون المرأة عاقلة ، فلا تجعله يراها إلا في الهيئة التي تخرج فيها من بيتها ، وتستقبل عليها ضيفها ، ولا تدعه يبصرها نائمة ولا يراها بغير زينة ، ولا يطلع عليها في مباذلها وأعمالها .
و رابعها : أنه لا بد لكل شركة أو جماعة من رئيس ، فإن كان في المركب رئيسان غرق المركب ، ولو كان في السماء والأرض إلهان فسدت السماء والأرض ،
فلا بد من ترئيس أحد الزوجين والرجوع عند الاختلاف إلى رأيه ، واعتراف الثاني برياسته وعلى الرئيس بعد أن يكون حاكمًا بعدل ورفق ، وعلى المرؤوس أن يكون طيِّعًا بفهم واحترام .
و خامسها : أنه لا بد لدوام المودة من اغتنام الفرصة لإظهار العاطفة المكنونة
بحديث حلو ، أو مفاجأة منه : هدية ولو صغرت ، وطرفة ولو قلّت ، واهتمام منها بصحته وراحة نفسه ومطعمه وملبسه وكتبه ، وأن يصبر كل منهما على غضب الآخر وتعتـبه .
يا سادة :
إن مشكلات البيت هيّنة سخيفة ،
ولكنها إن استفحلت نغّصت العيش وسوّدت وجه الدنيا ،
ولم ينفع معها ملك ولا مال ، فلقد كان الامبراطور نابليون الثالث يجد من مكارهها ما لم ينجه منه ملكه ، وكان الرئيس لنكولن يلقى من متاعبها ما لم يخلصه منه سلطانه ،
وإني لأستأذن السيدات بأن أختم هذا الحديث بكلمة لامرأة مثلهن هي ( آن شرر) قالت:
" إن بين كل عشر نساء تسعًا يحرصن على مضايقة الرجل ، وتنكيد عيشه ، ولهن في ذلك وسائل لا تحصى ، وهن يعتقدن أنه لا عمل للرجل إلا الثناء على جمالهن يومه كله ، وامتثال أوامرهن ، وإجابة رغباتهن ، وإذا رأينه مقبلاً على قراءة أو كتابة أو عمل له ، اقتحمن عليه مكتبه ، ونفضن في وجهه من المنغصات ما يحيل عزلته سجنًا ، وحياته جحيما ".
فيا سيداتي : أرجو أن لا تكون فيكن واحدة من هؤلاء !
بين الزوجين ... للشيخ علي الطنطاوي
أذيعت سنة 1948
نقلتها من كتاب : في سبيل الإصلاح ( بتصرف يسير )
|
|
|