عرض مشاركة واحدة
قديم 12-03-2008, 12:10 AM   #1
طالب الاله
عضو فعال


الصورة الرمزية طالب الاله
طالب الاله غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 23050
 تاريخ التسجيل :  02 2008
 أخر زيارة : 29-03-2008 (12:40 AM)
 المشاركات : 49 [ + ]
 التقييم :  10
لوني المفضل : Cadetblue
نـحـو مفهـوم الســاعـة (1)



نـحـو مفهـوم الســاعـة
إن البشرية في هذا العصر تعاني قلقاً نفسياً حاداً. وذلك بما أحدثته
الثورة التقنية من طغيان مادي كثيف، ألقى ظلاله القاتمة على
الأنفس فسدَّ عليها منابع النور، وحجبها عن موطن الخلود.
وهذه الثورة أغرقت الناس في متاهات فكرية، متعاكسة أحياناً،
ومتشابكة في أحيان كثيرة.
لقد كانت الثورة العلمية التقنية حلماً يدغدغ أحلام بعض المفكرين،
وكانوا ينظرون إليها منذ أواخر القرن التاسع عشر نظرة المنقذ من
الفقر والمرض والجهل. وقد أطلقوا لأفكارهم العنان، فوصفوها وصفاً
مسرفاً في اللاواقعية، وشنُّوا حرباً شعواء على النظم والمعتقدات
القديمة، وقالوا إنها شاخت واهترأت، ولم تعد تصلح لهذا العصر، وكما
حكموا على النظم والمعتقدات بالشيخوخة والاهتراء، حكموا على
الإۤله بالموت
انظر كتاب (نيتشه) هكذا تكلم زرادشت.
وأعلنوا عن مولد إۤله جديد، هو إۤله العلم أو العقل الجبار، وأن هذا الإۤله
سوف يسخِّر الطبيعة، أكثر مما سخَّرها لهم الإۤله القديم.
وصدَّقت الناس داعي الشيطان، وخاصة الغرب والشرق الأقصى،
وأشاحت بوجهها عن مبدع السموات والأرض، فهجرت بل واستهزأت،
بكل ما جاء به من سنن وشرائع ومُثل، واستبدلتها بشرائع وسنن من
وحي سدَنَةِ هذا الشيطان المريد.
غير أن هذا الإۤله الذي داعب مولده مخيلة المفتونين به، قد تمخض
عن نار يلوِّح للبشرية بين الحين والحين، بالدمار الشامل والهلاك الأكيد.
ولقد رأوا من بعد ما تبين لهم رفاههُ، أنَّ طعامه ذو غصَّة، وإن عليه
لشوْباً، والسعادة المنتظرة التي كانوا يحلمون بها، إنما كانت كسراب
بقيعة، يحسبه الذين استحبوا الحياة الدنيا ماءً، فيه الحياة وفيه
السعادة والهناء. ولما جاؤوه لم يجدوه إلاَّ وهماً، ولم يجدوه إلا ألماً
وشقاء، وكفى بذلك واعظاً، لو كانوا يعقلون.
إن فاطر السموات والأرض قد أبدع الوجود، على أحسن ما يكون
الإبداع، وشرَّع لنا من النظم ما تتوافق والفطرة التي فطر الناس عليها.
لقد بنى الوجود على سنن غاية في الدقة، وغاية في الإبداع والجلال،
وترك للإنسان المجال لكي ينظر في نفسه حين كان نطفة، وكيفية
أطواره في بطن أمه، وينظر إلى السماء كيف رُفعت، وإلى النجوم
كيف حبكت، وإلى الجبال كيف نُصبت، وإلى البحار كيف ملئت، وإلى ما
بث في الأرض من دابة كيف خلقت، وإلى ما أنبت فيها من كل زوج
كريم.
ترى من الذي قام بكل هذا ويقوم؟. ومن الموجد العظيم، الذي مدَّ
ويمدُّ الوجود الآن وفي كل آن؟.
ثم جعل "جلَّ شأنه" شرائعه متوافقة مع الفطرة التي فطر الناس
عليها، وهي تهدف إلى سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة، فقد بنيت
تلك الشرائع على مبادئ قويمة، تنهض بالأنفس لتسمو بها، وتربطها
بخالقها، وبهذا الرباط أو هذه الصلة تستطيع أن تتحرر من عبودية
المادة، التي ما إن تستولي على النفوس حتى ترديها، وتجعلها تعيش
معيشة ضنكاً. وبهذه الصلة، يتبدد الخوف من قلب المؤمن، ويزداد
الرجاء كلما تقدمت به السنون، وقرَّبته إلى المصير المحتوم، لا يتضجر
إن أقبلت الدنيا عليه، أو أدبرت.
وكذلك لا يبالي إن اعتل أو أصابته مصيبة، لأنه يعلم أن الحياة الدنيا
ليس لها من بقاء، والآخرة هي الحياة الباقية.
أما الذين رضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها، وجعلوها مبلغ همهم، فإن
قلقهم يزداد في أمسيات العمر، فيزدادون هماً وغماً، إن أقبلت أو
أدبرت، أو أصابهم مكروه.
إن الذين يأملون، أن يجعل لهم إۤلههم الحياة الدنيا فردوساً جميلاً، وأن
يسخِّر لهم الطبيعة بأكثر مما تجود به، أولئك هم الموهومون، وأولئك
هم المغبونون لا في الآخرة فحسب، بل وفي الحياة الدنيا أيضاً.
وهذا الإۤله الذي يأملون منه أن يجعل لهم الدنيا جنات وقصوراً، سوف
يفسد عليهم أحلامهم، وسوف يكتوون بناره عن غضبة يغضبها،
ويجعل ما بنوه بواسطته من حضارة، قاعاً صفصفاً.
إن هذه الثورة (التقنية) قد جاءت مخيبة للآمال، إذ أنها أبعدت الناس
عن السعادة الحقيقية التي لا تقارن مع تلك السعادة الحسيَّة
الموهومة، ذلك لأن السعادة الحسية بحقيقتها ليست سعادة، وإنما
هي لذائذ وقضاء شهوات ورغائب، وشتان بين هذه وتلك.

ذلك لأن شهوات النفس كثيرة، وطاقتها غير محدودة، بينما طاقات
الإنسان الجسمية محدودة، والفارق بين الطاقتين هو مبعث الألم
ومبعث الشقاء، فتركيب طاقة غير محدودة على طاقة محدودة، يجعل
الأخيرة لا تستطيع أن تلبي رغائب الأولى.
النفس كالفرس الجموح، كلما قضت من شهوة وطراً طلبت أخرى من
غير ملل أو كلل، لأن ماهية تكوينها غير مادي، وهذه الطاقة غير
المحدودة لم يعدّها تعالى لتملأ أوضاراً، وإنما أعدت لتملأ كمالاً وجمالاً
مطلقين، ولتشرب من معين لا ينضب.
وشتان بين تلكما الحالتين، لذائذ زائفة كفيلة بإنتاج الضجر والسأم
مشوبة بالهمِّ والغم والألم ومنتهية من قبل أن ينتهي الإنسان من
الدنيا، وسعادة مستمرة ومتزايدة تظل معه إلى الأبد(1).
يتبع .............
.....

المصدر: نفساني



 

رد مع اقتباس