قصة بمغزى ودواء لكل مريض .....
غريبة ولكنها واقعية
ليست رواية خيالية ولا حكاية أسطورية...
بل هي واقعة حقيقية...
قصة لا مجال فيها للمبالغة أو الخيال، تُروى بكل صدق وأمانة... ليأخذ بها كل إنسان، وليس لنا هدف من سردها، بإذن الله سوى كل خير وحب وإرشاد.
وهي إن كانت تدل على شيء... إنما تدلُّ على عظمة الإله وحبّه الكبير لنا نحن البشر..
إن رحمة الله بعباده تقتضي ألاَّ يدعهم ينغمسون في أوحال شهواتهم الدنيوية الرخيصة، وهم يعتقدون أن المتعة والراحة لا تكون إلاَّ في الدنيا... وما فيها من مال وامرأة وولد، فيُرسل لنا سبحانه وتعالى ما ينبِّهنا ويحذِّرنا مغبة الريح التي ستعصف بنا وتحملنا شئنا أم أبينا إلى الهاوية.
صحيح أن الله تعالى قد أغدق علينا من نعم شتى، وخلق ما خلق من أرض وما فيها من بحار وجبال وأنهار، وسماء وما فيها من كواكب وأجرام، وجعل لنا السمع والبصر والفؤاد لنحيا فيها ونتمتع، لكن بشرط ألاَّ نعبد المخلوق وننسى الخالق.
وإن الدنيا لم تُخلق للتمتُّع بها فقط، ولكن خُلقت للتعرُّف من خلالها على الله، فمن فهم سبب البلاء وأنه مما جنته يمينه وعرف أنه من الله رحمة، فيحمد ربَّه ويشكره، ويثوب إليه ضارعاً متضرعاً تائباً أن يخفِّف عنه ويرفع ما وقع فيه من كرب وعذاب. قال تعالى مخاطباً رسوله الكريم (ص):
{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} سورة البقرة: الآية (186).
وما أن يتوب عما مضى من أخطائه حتى يخفِّف الله عنه ويشفيه من مرضه ويفتح له باباً من أبوابه ليتعرَّف من خلاله على كمالات الله وأسمائه الحسنى.
وبقدر ما يكون الواحد منا صادقاً في التجائه... أميناً على وعده الذي قطعه على نفسه أمام الله، بأن يتراجع عن ظلمه وبعده عن ربِّه... بقدر ما يكون الله معه فيجعل المرض صحة ويجعل العسر يسرا...
أما إذا كان التجاؤنا وقتياً تغلب فيه مصلحتنا الشخصية على حبنا لله وعلى الرغبة الصادقة في العودة إليه والامتثال لأوامره، فإن مرضنا سيكون علينا لعنة وعسرنا سيكون ناراً على قلوبنا، ولن يرفع الله والحالة هذه عنا ابتلاءه لنا ونبقى في ظلماتنا نتيه ونتيه حتى يأتينا الموت ليرمي بنا إلى ظلمات أعمق وأكبر.
{وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً} سورة الفرقان: الآية (27).
والقصة التي سنتلوها عليكم الآن تحمل في طيَّاتها الشيء الكثير... لمن أراد النجاة فيعتبر ويستنير...
وهي أكبر دليل لنا على قدرة الإله العظيمة، وإرادته الحكيمة بأن ينزل علينا قليلاً من المشقَّة والمرض والعذاب حتى يقينا شرَّ العذاب الأكبر، إن نحن تابعنا إشراكنا وازددنا في إعراضنا عن منابع نوره وطهارته:
* * *
"سليم بك" رجل من أصل عربي هاشمي، ولد في دمشق من عائلة دمشقية ميسورة الحال، ذكية الأنسال وشاء القدر أن يكون لهذا الرجل أخ وهو إنساننا السيد محمد أمين.
عاش الأخوان وترعرعا في بيت واحد... أما والدهما فقد وافته المنية وكانت إرادة الإله أن سافر الأخ الكبير السيد سليم إلى تركيا واستقر في استانبول وذلك هو طلبه ومبتغاه. وكان له نصيب للزواج من ابنة وزير الخارجية للامبراطورية التركية آنذاك، وبالطبع فهي زوجة تليق به وبمكانته السياسية والاجتماعية المرموقة حيث إنه أضحى في ذلك الوقت يشغل منصب قائد لإحدى الفرق التركية برتبة جنرال...
وقد استطاع من وراء منصبه ثم امتهانه التجارة أن يكوِّن ثروة كبيرة ظنَّ أنها تجعله في مأمن من الذل وغدرات الزمان.
وطبعاً كان المال حلاَّل المشاكل بنظره ونظر الكثير من الناس...
توالت سنون من بعدها سنون وأصبح السيد سليم أكثر تمسُّكاً بالدنيا وتعلُّقاً بالمال.
وجاء ما لم يكن بالحسبان...
فلقد دبَّ المرض في أوصاله وبدأت أعضاؤه تفقد قدرتها على الحس والحركة..
وما لبث أن أصيب بالشلل النصفي ولا يزال شبح هذا المرض يسير ويسير حتى أوشك أن يقضي عليه ويرمي به إلى دفاتر النسيان...
هنا، شعر السيد سليم بالخطر، فأرسل يحضر طبيباً وراء طبيب، لكن دون جدوى فلقد أجمع الأطباء على رأي واحد ونتيجة واحدة...
إذاً... ليس عندكم أي حلٍّ يشفيني... أو حتى يوقف استمرار زحف هذا اللعين في جسمي؟.
مع الأسف إنك الآن في أخطر مراحل حياتك... وهذا داء ليس له عندنا دواء وحسب رأينا فإن أيامك باتت معدودة لا تتجاوز الخمسة عشر يوماً ستقضيها في الفراش دون حراك نسأل الله أن يتولاَّك برحمته ويخفِّف عنك.
هنا وصل مريضنا إلى قمة الشعور باليأس والألم... أفنيت عمري كلَّه وأنا أبحث عن الثروة... وعندما أصبحت عندي صرت لا أملكها... ولا أستطيع أن أنتفع منها وها أنذا راحل وتاركها!.
أين أنت يا أخي الآن؟!.
أشعر بحرقة في جوفي، وشيء ما يناديني ويشدني إليك...
يجب أن أُعلمك بمرضي، يجب أن أُرسل إليك...
ليتني أستطيع السفر والعودة إلى أرض أجدادي... إلى أمي...
إلى تاريخي...
إلى طفولتي...
إليك يا أخي وحبيبـي... في الشام...
خسئتِ يا دنيا غدَّارة أنت...
وأنت أيها المال فلْتُحرق وتنثر في الهواء أو تُلقى في غياهب البحار... لا أريدك وأنت عاجز عن مساعدتي.
ضياع وغربة... وحدة وحرقة... شريط ذكريات يمر أمام عينيَّ، والنوم قد غادر مقلتيَّ، والخوف من الموت، والمصير المجهول... ظلمة القبر وعتمة المكان سوف تخنقني...
ربَّاه ما السبيل إلى النجاة من كل هذا؟!.
ربَّاه إني أشكو إليك ضعفي وقلة حيلتي فانتشلني.
ثورة مزَّقت أعماقه لم يشعر بها أحد ممَّن كانوا حوله... عندها شعر بالحاجة إلى أخيه وضرورة الإرسال إليه لإعلامه بمرضه طالباً رأيه بما يخص التركة والوصية. لمن أوصي وبكم أوصي ولمن أكتب من إرثي فأنا منتقل لا محالة.
وطبعاً وصلت البرقية، وعندما قرأها السيد محمد أمين واطلع على محتوياتها قرأ فيها حزناً دفيناً وندماً وألماً كبيراً من أخيه على نفسه وعلى عمره الذي أمضاه راكباً قطار الدنيا الذي نقله من محطة إلى محطة، وفجأة وجد نفسه قد وصل إلى آخر محطة حيث لا بد من مغادرة القطار، تاركاً وراءه الأهل والمال والذكريات، إلى عالم المجهول ليس فيه عيش إلاَّ للأتقياء...
أما إنساننا فلقد كان أمله كبيراً، وثقته بالله عظيمة بأن الله قادر أن يشفيه ويعيد إليه الحياة من جديد شرط أن يفهم حقيقة هذا البلاء، بأنه من الله عين الرحمة {.. وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ..} سورة البقرة: الآية (216). وفرصة كبيرة وأخيرة على أن يغيِّر مسراه ومنهجه، وينفق في سبيله تعالى ما يقرِّبه من جنابه ويكون له سبباً للإقبال عليه والاستنارة بنوره.
لا مجال للانتظار... كل يوم يفوت ليس من صالح أخي العزيز... يجب أن يكون الردُّ سريعاً.
أبرق إليه يدعوه إلى ما هو أهم من المال والإرث والوصية، إذ إن ردّه تضمن ما يلي:
بسم الله الرحمن الرحيم
أخي العزيز سليم حفظه المولى آمين...
سلام من الله عليك ورحمة من لدنه وبركات، أما بعد:
وصلتني رسالتك، ولقد قرأت فيها أشياء كثيرة... قرأت شوقك وحنينك إلى بلدك وأهلك... وقرأت حزنك وأسفك وكل ما يدور في نفسك وإني أعلم أنك الآن في حال سيء... لكني أريدك أن تكون على ثقة كبيرة بأن الله رحيم وعادل... وبأنه سبحانه قادر على كل شيء:
وليس يعجز من خَلَقَك أول مرة، وربَّاك وسوَّاك على أحسن حال أن يشفيك ويبنيك من جديد... الذي وضع المرض هو تعالى وحده يرفعه.
لكن هذا متوقف عليك وقرار حسْمه إنما هو بيدك أنت، وإني لأوصيك بشيء هام، هو سبيلك إلى النجاة والتقرُّب إلى الله... إنها الصدقة يا أخي... وليس سواها، هذا ما أوصانا به الرسول الأعظم (ص) وهذا ما أُوصيك به:
«داووا مرضاكم بالصدقة».
عليك بالصدقة يا سليم، فإن فيها نجاتك وسعادتك في الدارين، وبإذن الله ستُشفى وتعود لك صحتك وتتابع مسيرتك في هذه الحياة بنور الله ورعايته إذا أنت أردت وكله متوقف على اختيارك وقرارك.
وطبعاً ألفُت نظرك إلى شيء مهم وهو أن الصدقة تكون على قدر حال المتصدِّق، وإني لأعلم بأن لك قطعة أرض كبيرة ثمينة وسط استانبول وأشير عليك أن تبنيها على هيئة كتلة كبيرة تتألف من قبو ومتاجر
ومكاتب وما تبقَّى تبنيه مساكن تنظمها على النحو الآتي:
• غرفة وصالون ومنافعهما لرجل عاجز مثلاً.
• غرفتان وصالون ومنافعهما لعائلة وسط.
• ثلاث غرف وصالون ومنافعهما لعائلة كبيرة.
ومن ثم تؤجِّر القبو والمتاجر والمكاتب على أن تجعل أحد هذه المكاتب مكتباً رئيسياً ومسؤولاً عن حصر إيرادات هذا المشروع تصرفها على شكل رواتب شهرية بنسب ثابتة لمن تُسكنهم في هذه الشقق وللعائلات الفقيرة واليتامى والمساكين والعجزة المقطوعين، ولكلٍّ على قدر حاجتهم أي ما يجعلهم يعيشون في كفاف.
ختم برقيته وكله أمل ورجاء ودعاء إلى الله أن تلاقي عند أخيه صدى وأن يستجيب أخوه لهذه المشورة... وأن يعمل على تنفيذها فوراً بعد نيّة صادقة ينويها بينه وبين ربه.
كانت حالة السيد سليم تزداد سوءاً وقلبه يزداد حسرة وآهات تنطلق من جوفه تمزِّق أعماقه لا تزيده إلا حزناً وألماً ويأساً.
وصلت برقية إنساننا إليه فبعثت فيه إشراقة أمل ما كان يحلم بها... ورأى بصيص نور ينبعث منها فتعلَّق بها، لكنه تريَّث قليلاً يتساءل صدقة!. لم يسبق لي أن سمعت عن شيء اسمه صدقة يشفي من مرض عضال مثل مرضي، إذا كان فيما يخص الأرض فأنا لست أرغب بعد اليوم بمال أو ملك، ولكن إذا كان الطب عاجزاً عن شفائي أو مساعدتي، فهل ستشفيني صدقة... ربَّاه هل هذا صحيح؟.
وبينما هو على هذا الحال يتساءل ويفكِّر أخذته سنة من النوم ورأى في منامه أن أخاه قد جاءه وسلَّم عليه وجلس بقربه يحادثه ويؤنس وحدته، يحنو عليه ويجيبه عن استفساره ويشرح له عن الصدقة وعن عظمة الله وقدرته ورحمته، وعن سبب المرض، وعن الدواء الوحيد لكل بلاء، إنها الصدقة يا عزيزي وليس سواها فهي سبيلك الوحيد للتقرُّب من الله، فبالصدقة تكسب النفس ثقة من خلال عملها الذي قامت به فتقبل على ربِّها دون خجل، وبإقبالها وعروجها تجاه خالقها تشفى من العلل والأدران التي علقت بها في الدنيا، وحين تُشفى النفس ينعكس شفاؤها على الجسد، الذي هو مرآة تعكس حال النفس البشرية.
إن الله يا سليم قريب مجيب شرط أن ندعوه ونحن بحال الإيمان لا الإعراض، والاستجابة لا النكران... فهو الله العزيز، الكريم، المجيب، السميع... الحق الوكيل... يتوكل أمورنا إذا نحن سلَّمنا به وتوكلنا عليه، وإن كل شيء في النهاية سيؤول إليه، توجه إلى الله، ادعه اطلب منه ما تشاء، وقدِّم ما تحب بين يديه، عسى الله يقرِّبك منه ويدخلك في رحمته... فكِّر في بدايتك عندما كنت نطفة تشكَّلت من مجموع الثمار والطعوم، ثم أصبحت جنيناً في بطن أمك، من الذي وضعك في رحمها؟. من الذي خلقك وربَّاك وسوَّاك؟. من الذي أرشدك إلى ثديها لترضع لبناً سائغاً فيه غذاء لك يتناسب وعمرك؟. ثم إلى طفل ثم إلى شاب...
فكِّر في كل هذا، فكِّر في الشمس والقمر، في السماء، في الليل في النهار، من الذي خلق كل هذا؟.
إنه الله يا أخي... إنه الله يا عزيزي.
يتبع
|