03-05-2008, 11:05 AM
|
#1
|
عضومجلس إدارة في نفساني
بيانات اضافيه [
+
]
|
رقم العضوية : 19648
|
تاريخ التسجيل : 03 2007
|
أخر زيارة : 10-11-2020 (02:43 AM)
|
المشاركات :
12,794 [
+
] |
التقييم : 94
|
|
لوني المفضل : Cadetblue
|
|
المجنون .... قصه قصيره
صالة انتظار فسيحة، أنيقة، مبردة، تزين زواياها نباتات خضراء ذات أوراق عريضة لماعة، وقد ارتفعت أغصانها، فساعدتها دعامات خشبية رقيقة في الامتداد، كراسٍ جلدية زرقاء تنشر زرقتها إحساساً بالراحة والهدوء، لافتة مستطيلة الشكل كتب عليها ممنوع التدخين، وصورة سيجارة مشطوبة بإشارة ضرب مائلة، لكم تمنت أن تشعل سيجارة، وهي تنتظر دورها في عيادة أشهر طبيب للأمراض النفسية، لكنها أذعنت للأمر المعلق على الجدار. أكثر ما لفت نظرها ساعة خشبية تبدو من القرون الوسطى بعقاربها الضخمة، وأرقامها اليونانية، كانت وحيدة مع دقات الساعة، وأحست وهي تنتظر بفارغ الصبر موعدها لملاقاة الطبيب. إنها تقف وجهاً لوجه أمام الزمن، وأخذ إحساسها به يتعاظم حتى شعرت أن له وزناً. وفجأة تفتقت جملة في ذهنها: الزمن آلة الموت، فتنتها تلك العبارة رغم أنها لم تفهمها إلا بشكل غامض ومبهم، ولم يكن من عادتها الاهتمام بالأفكار والعبارات العميقة، ولم ترغب يوماً أن تقرأ كتاباً. كانت تتهم زوجها دوماً وبسخرية مبطنة في البداية ثم معلنة فيما بعد بأن الكتب تسبب الصداع، والجنون، واكتفت بأن تقرأ أخبار النجوم، والأبراج، والمواضع الخفيفة، لكنها لم تلبث أن كررت تلك العبارة التي فتنتها -الزمن آلة الموت- محاولة الغوص في المعاني اللانهائية التي تثيرها فيها هذه الجملة..
كان مكتب الممرضة الذي يحتل الزاوية اليمنى من القاعة فارغاً، أحست برضى جرّاء كون المكان خالياً. قالت لنفسها: هذا أفضل، كنت سأضطر لخوض حديث مع الممرضة، وقد تعتقد أنني مجنونة أو مصابة بمرض نفسي، وتساءلت: لماذا يعتبر كل من يقصد عيادة طبيب نفسي مجنوناً؟ لكنها للحال أدركت أنها من هؤلاء الناس الذين يطلقون حكماً على كل مريض يقصد عيادة طبيب نفسي، حكماً جاهزاً وساخراً، بل فيه احتقار، واستصغار لأولئك المرضى النفسيين، لكأنهم صنفوا خارج الجنس البشري. ما يهمها الآن ألا يعرف أحد أنها قصدت عيادة طبيب نفسي، لكنها لم تقصده لعلّة فيها بل فيه هو -الزوج- الذي لم تعد تناديه باسمه بعد عامين من الزواج، بل صار اسمه أنت وهو بدوره صار يناديها أنت، أنت وأنت الأسماء الحقيقية للأزواج، لأن الخصوصية والسحر لكل منهما يذوبان أو يتبخران في روتين قاتل.
قامت تتمشى في القاعة الفسيحة، وتقترب من لوحة يزيد طولها على المتر كما قدرت وعرضها حوالي نصف متر، تمثل شاباً مستلقياً على عشب أخضر بكسلٍ واستسلام، وثيابه رثة، ويضع على رأسه قبعة من القش مهترئة ومثقبة، وقد مالت إلى الأمام بسبب يديه المتصالبتين خلف رأسه وهو يغمض عينيه باسترخاء لذيذ مستمعتاً بدفء أشعة شمس تحسها تغمر فضاء اللوحة، فيما رسمت شفتاه ابتسامة سعادة صريحة، استفزها الشاب في اللوحة، وتساءلت حانقة: ما الذي يدفعه للابتسام؟ واتهمت الطبيب بأنه غير موفق في اختيار لوحة غرفة الانتظار... لكنها تساءلت وما أدراني مغزى هذه اللوحة؟ إن ابتسامة السعادة والسخرية الطافحة على وجه الشاب قد تكون مقصودة من قبل الطبيب، لعله يريد أن يوصل مرضاه إلى مرحلة يقدرون فيها على الإحساس بتلك السعادة البلهاء، لكن فكرة انبثقت في ذهنها تذكرها أن ابتسامة الشاب استفزتها لأنها تشبه ابتسامة زوجها. خفق قلبها مؤكداً حقيقة الشبه، أجل زوجها يبتسم دوماً تلك الابتسامة مذ أصابه الجنون...
انتفضت مجفلة من صوت الساعة الخشبية تعلن تمام الثامنة، إنه موعدها مع الطبيب، نظرت بآلية إلى ساعتها. كانت تشير إلى التوقيت ذاته أيضاً، وما كادت ترفع نظرها عن الساعة حتى فتح باب أبيض عريض وأطل الطبيب الأربعيني بقامته الفارعة وأناقته الملفتة ووجهه الوسيم، وحياها بابتسامة قائلاً: السيدة رحاب أليس كذلك؟
قالت: أجل..
قال: تفضلي، وأفسح لها مجالاً للدخول..
كان مكتبه لا يقل اتساعاً عن قاعة الانتظار، أنيقاً من اللونين البيض والأخضر، وقد فرشت الأرض بموكيت أخضر طويل الريش يبدو كعشب. قرأ سؤال الدهشة في عينيها: من أين خرج المريض الذي كان في الداخل؟ قال لها باسماً محاولاً بث شيء من المرح في نفسها: باب الدخول غير باب الخروج، اضطررت لهذه الوسيلة لأن الناس هنا يحسون بحرج إذا تواجهوا، وعرف كل منهم أن الآخر يقصد عيادة طبيب للأمراض النفسية.
قالت له: أجل معك حق..
غمرها شعور بالارتياح وهي تجلس في حضرة رجل أحست أن له مفعولاً آسراً، وأعطاها الأخضر المنتشر إحساساً بالاستقرار، أخذت نفساً عميقاً وهي تشعر أنها ستبوح له بكل شيء، كل شيء قال: آسف سيدة رحاب، لقد اضطررت أن يكون موعدك متأخراً، في الواقع ضغط العمل عندي كثير هذه الأيام، وابتسم متابعاً: إن ضغوط العصر تتفاقم، وما عاد تحملها بالأمر السهل، وافقته دون أن تستوعب كلامه لأنها كانت منشغلة في تحضير لمقدمة حديثها...
قال: حسناً، سيدة رحاب، ثمة أسئلة تقليدية في البداية عن العمر، المهنة..
قاطعته: عفواً، دكتور، لست أنا المريضة، بل زوجي.
نظر إليها مستطلعاً إنما ليس مندهشاً، قالت: أتيت استشيرك بحالة زوجي، إنه هو المجنون أقصد المريض، أما أنا فالحمد لله لم أفقد عقلي بعد..
سألها الطبيب: ولم لم تحضريه معك؟
تصنعت الابتسام قائلة: لأنه يرفض، يعتقد بأنه عاقل، بل الأدهى من ذلك يعتقد بأنه توصل إلى حكمة الحياة.
-لكن في هذه الحالة سيكون من الصعب علاجه، يجب أن ألتقيه...
قالت: آمل ذلك، بمساعدتك طبعاً.
أخذت نفساً عميقاً قائلة: في الحقيقة لا أعرف من أين أبدأ؟ وفجأة اختنق صوتها وهي تخضع لانفعال خضّها فجأة مفجراً دموعاً حارقة من عينيها، ربما لأنها أحست بهشاشتها تجاه رجل تتدفق الثقة من ملامحه، لكنها أحست أنه من الطبيعي ، بل قد يكون من واجبها أن تبكي في حضرة طبيب نفساني...
قال لها وهو يقدم منديلاً ورقياً لتمسح دموعها فيما موسيقى هادئة لموزارت تغمر المكان فجأة تحسها قادمة من الفضاء لأنها عجزت عن تحديد مصدرها...
سيدة رحاب ثقي أن كل المشاكل لها حلول، وكما يقال نصف العلاج يكمن في البوح بالمشكلة فأرجوك اهدئي وتحدثي إلي بثقة...
مسحت دموعها، أحست برضى كونها ابتدأت بدفقة الدموع، وهكذا سيشعر الطبيب صدق معاناتها، وقد يصدقها أكثر.
قالت: أليس غريباً أن يبدأ الجنون عند رجل، وهو على أعتاب الخمسين؟ لا تتصور كم يحزنني ذلك يا دكتور، منذ أكثر من سنتين غدت تصرفاته غريبة للغاية، كأنها صادرة عن شخص آخر شخص لا علاقة له إطلاقاً بما كانه.
-هل يمكنك أن تقولي لي للحال ودون تفكير بعض تصرفاته مثلاً..
أذعنت للأمر وقالت: تصور البارحة لمحت صرصاراً كبيراً خلف ستارة الصالون، وأنا أشمئز من الصراصير، وأخشى قتلها، أقصد أفضل أن يهرسها غيري، قلت له: انظر إلى هذا الصرصار هيا اقتله، فابتسم قائلاً: لا، لن أقتله، دعيه يعيش مستقبله! هو الذي كان يسحق الفراشات في كفيه ليبين لرفاقه براعته في اصطياد الفراشات.
ابتسم الطبيب وقال بدعابة: ألم يُقتل الصرصار بعد؟
قالت: لا، تصور ماذا فعل، لقد رفعه على قطعة ورق برفق شديد ورماه خارجاً.
-حسناً، سيدة رحاب، سأسألك عن عمله وعاداته، وإن كان يشكو من أمراض عضوية.
أشعل الطبيب سيجارة، وقدم لها سيجارة تناولتها شاكرة قائلة باستغراب: لكنك تمنع التدخين مشيرة إلى غرفة الانتظار.
قال: في الخارج، غرفة انتظار للجميع، لا يحق للمدخن أن يسيء لغير المدخنين، أما هنا فالمكان والوقت ملك للمريض فإذا كان مدخناً فليدخن.
سحبت نفساً عميقاً من سيجارتها وقالت: زوجي اسمه مروان عبد الجبار، أشهر تاجر زجاج وقد جمع ثروات كبيرة من تجارة الزجاج، وهو جامعي حاصل على شهادة جامعية في التجارة والاقتصاد، وقد تزوجنا بعد قصة حب، منذ ربع قرن تقريباً، كان شاباً جميلاً، قوياً، مغرماً بالصيد، وأكثر ما أحببت فيه قوته، كان لا يخشى شيئاً، ولكم اصطدمنا في بداية زواجنا بسبب هوايته في صيد الخنازير، تصور يا دكتور الرجل الذي كان يقتل الخنزير ويسلخه ويقطعّه ثم ينام بعمق، لا يقتل الآن صرصاراً، بل يتركه ليعيش مستقبله!
-حسناً سيدة رحاب، هل عشتما سعيدين ومتفاهمين؟
-أجل يا دكتور، كانت حياتنا نموذجية، رزقنا ثلاثة صبيان، كلهم ناجحون، والحمد لله، لم يتسببوا لنا بمشاكل إطلاقاً، لم نشك من أية صعوبات مادية. على العكس، لا نزال نعيش في بحبوحة يحسدنا عليها الأقرباء والأصدقاء إلى أن تحولت حياتنا إلى جحيم مذ أصابه الجنون أقصد المرض.
-منذ متى لاحظت أن طباعه تتبدل، أرجوك أن تحددي الزمن بدقة.
قد لا أستطيع تحديد الزمن بدقة، لكني أعتقد أنه منذ صدور الحكم النهائي للدعوى بينه وبين ابن عمه، رغم أن الحكم كان لصالحه بالنتيجة.
-وما موضوع الدعوى؟
-آه، إنها قصة قديمة، كان زوجي قد ورث عن والديه بناء قديماً ومتصدعاً من طابقين، الطابق الأول عبارة عن ثلاثة مخازن، يحتل أحدها ابن عمه، وحين أراد زوجي هدم البناء المتصدع وتشييد بناء حديث من ستة طوابق، رفض ابن عمه أن يخلي الدكان، واضطر زوجي للجوء إلى القضاء، تسع سنوات يا دكتور استمرت الدعوى، إلى أن صدر الحكم أخيراً بأن يخلي ابن عمه الدكان وبأن يهدم البناء، وبالفعل تم هدمه، وشيد بدلاً منه عمارة رائعة بتسعة طوابق..
سأل الطبيب: لقد ذكرت منذ برهة أن البناء من ستة طوابق.
ضحكت وهي تجيب: ومن لا يخالف يا دكتور؟ لقد دفعنا سلفاً ثمن المخالفات.
-وما علاقة الدعوى بمرض زوجك؟
-قد لا تكون هناك علاقة فعلية، وقد أكون أنا واهمة إذ ربطت بين مرضه والدعوى لكني لاحظت تغير شخصيته منذ صدور الحكم، آه، الله لا يكملّها مع أحد كما يقولون، فبدل أن نفرح وتتحسن حياتنا بعد أن ربحنا الدعوى، فقد ابتلينا بمرضه، تصور لقد انتابه حزن شديد حين صدر الحكم لصالحه.
-كيف انتابه الحزن؟ هل يمكنك أن توضحي أكثر؟
-أظنه أحس بالندم الشديد كونه ظلم ابن عمه، وندم على سنوات القطيعة والكره بينهما. لقد انتابه غمٌ فظيع لأيام بعد صدور الحكم، لم يفتح فمه بكلمة، كان يجلس طوال الليل محملقاً في الفراغ أمامه، لا يرد على كلامنا، كأنه لا يسمعنا ولا يرانا، وقد عرفت من المقربين أنه قد زار ابن عمه ورجاه أن يسامحه..
قاطعها الطبيب يسأل: وهل عوضه عن الدكان؟
-في الحقيقة أراد أن يعطيه أكبر دكان في البناء الجديد، ولكن من حسن الحظ لم يستطع، لأنه كتب البناء منذ سنوات باسم أولاده، وجن جنون أولادي بسبب تهور والدهم ورفضوا أن يذعنوا لرغبته بإعطاء ابن عم أبيهم أكبر دكان في البناء الجديد.
*******************يتبع ***********************
|
|
|