عرض مشاركة واحدة
قديم 03-05-2008, 11:08 AM   #2
اسامه السيد
عضومجلس إدارة في نفساني


الصورة الرمزية اسامه السيد
اسامه السيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 19648
 تاريخ التسجيل :  03 2007
 أخر زيارة : 10-11-2020 (02:43 AM)
 المشاركات : 12,794 [ + ]
 التقييم :  94
لوني المفضل : Cadetblue


وماذا كان موقفه من أولاده؟‏

-لقد نظر إليهم بشفقة واحتقار، وقال إنهم مساكين، وعميان لأنهم لا يبصرون نور الحق.‏

آه يا دكتور حتى مفردات لغته تغيرت بعد أن مرض، صار يتكلم كثيراً عن الحق، والعدل والقيم الروحية، يا إلهي كم تبدل، كان لا يحكي سابقاً إلا بلغة الأرقام، وكان يضحك وهو يحكي لي كم ربح بمجرد لعبة بسيطة مارسها على زبون.‏

-ألا يزال يتابع عمله كتاجر زجاج؟‏

-لا إطلاقاً، لقد أهمل المحل، إنه يقضي وقته متأملاً أو يقرأ كتباً روحية، أظنها زادت جنونه.‏

-ألا تزال الخصومة قائمة بينه وبين ابن عمه؟‏

-لا، لقد عوضه بمبلغ كبير من المال، يشتري للأخير دكاكين وليس دكاناً واحداً، عرفت ذلك من المقربين والأهل، فهو لا يحدثنا إطلاقاً بما يعمل، حتى أن أحد الأقرباء شاهدة يبكي في أحضان ابن عمه، بالله عليك يا دكتور، رجل عاقل يتصرف بهذه الطريقة؟‏

-من الواضح أنه ندم وأحس أنه ظالم.‏

-أحس أنه ظالم! لماذا لم ينتابه هذا الشعور طوال سنوات الخصومة مع ابن عمه؟ أليس غريباً أنه بعد أن ربح الحكم أحس أنه ظالم؟!‏

-حسناً سيدة رحاب. ما هي تصرفاته الغريبة التي لاحظتها أيضاً منذ عامين؟.‏

-ألا يكفي أنه أهمل تجارته، بل تركها تماماً، ثم أخذ ينفق بلا حساب على الفقراء، مبدداً ثروته شمالاً ويميناً، من حسن الحظ أن أولادي تمكنوا من أن يستولوا على القسم الأكبر من أملاكه وأمواله، لكن ما يحرقني أكثر نوبات البكاء التي تنتابه، صدقني أحس وقتها بقرف، اعذرني على هذه الكلمة يا دكتور، لكنها الحقيقة، أشمئز من منظر رجل عرفته قوياً وجباراً صار يبكي كطفل.‏

-ألم تحاولي التحدث إليه؟‏

-أجل حاولت مراراً، لكني لم أجن سوى المرارة والخيبة، لم أعد موجودة بالنسبة إليه يا دكتور، أتكلم إليه فيما هو ينظر إلي نظرات شاردة تتجاوزني، كأنه لا يراني، ويقول لي مسكينة يا رحاب، أنت تضيعين الجوهر. عن أي جوهر يتحدث لا أعرف؟‏

-وكيف يقضي أوقاته؟‏

-إنه يغرق بتأملات طويلة، وأحياناً يكتب، وهو حريص على أوراقه يخفيها في درجه ويقفل عليها أكثر مما كان حريصاً على أمواله، ذات يوم داهمته يكتب فأجفل وأخفى أوراقه، لكني غافلته مرة وتمكنت من فتح درجه الخاص بعد أن سرقت المفتاح وقرأت أوراقه، يا للطلاسم، لم أفهم شيئاً، لغة مجانين.‏

-هل تذكرين بعض عباراته؟‏

-لا، واستدركت أجل أذكر بعضها، تصور أنه يبتدع تعابير مثل تجميع الذات، لقد قرأت صفحة لم أفهم منها شيئاً أنه سيجمّع ذاته، وأنه يجب أن يوجد حيث هو، وأنه يجب أن يمتد إلى المستقبل، وبأنه يعاني من نتائج سقوطه المأساوية. يا إلهي يا دكتور، لو أتمكن من إحضار تلك الأوراق إليك..‏

-أتمنى فعلاً أن أقرأ ما يكتبه فهو مثير للاهتمام كما يبدو...‏

-لكن أي تجميع للذات هذا يا دكتور... هل يتحدث هكذا عاقل..‏

ابتسم الطبيب قائلاً: ثمة قاعدة يجب أن تعرفيها يا سيدة رحاب، لا يمكن القول عن شخص بأنه مجنون أو مضطرب نفسياً ما لم يخضع لاختبارات في الطب النفسي، كما لا يمكن أن نقول عن شخص إنه عاقل، ما لم يخضع بدوره لهذه الاختبارات.‏

-ماذا تقصد؟‏

أحست بذعر لكأن الأرض تتخلخل تحت قدميها، إنما لم تتمكن من تحديد ذعرها بوضوح.‏

تابع الطبيب: الكلام شديد الوضوح كثيرون حولنا، يعتقدون، ويعتقد ذووهم أنهم أسوياء في حين أنهم غير أسوياء على الإطلاق، إن العصاب يأخذ أشكالاً متنوعة وقاسية في زمننا، بالمقابل هناك أشخاص منسجمون مع ذاتهم، يفكرون بوضوح وصدق وبشكل سليم لكنهم يعتبرون شاذين أو مجانين، كما ينظر إليهم الآخرون، أعرف شاباً ينظر إليه الناس على أنه مجنون لمجرد أنه يمارس هواية اليوغا في الهواء الطلق، ويضع حلقاً ذهبياً في أرنبة أنفه ويسدل شعره على جبهته أو يضفره في ضفيرة، لقد درس في الهند، وتأثر هناك بالبوذية واعتنقها، وأصرّ على أن يعيش قناعاته هنا فكانت النتيجة أنه صُنف مجنوناً، فماذا تحكمين على هذا الشاب يا سيدة رحاب؟‏

أحست رحاب بالارتباك، ووجدت نفسها تجيب دون أن تبذل جهداً للتفكير: لا أعرف المهم العقل..‏

ضحك الطبيب قائلاً: جملة هامة. المهم العقل حسناً، فهل بإمكانك تعريف العقل؟‏

اشتد ارتباكها وقالت: وهل العقل يحتاج لتعريف، إنه عكس الجنون..‏

ابتسم الطبيب وقال: إذاً علينا أن نتفق حول تحديد مفهوم العقل ومفهوم الجنون..‏

قالت وهي تحس بضيق: أرجوك يا دكتور أنا لست طبيبة نفسانية، كل ما أرجوه أن تساعدني في علاج زوجي.‏

قال الطبيب: ما فهمته حتى الآن أنه تاجر ناجح ثري، له ممارساته المعينة في الربح غير المشروع، وكان طماعاً وشرساً وظالماً، ثم تغيرت وجهة نظره للحياة، أعاد تقويم ذاته وحاول ترميم ما يمكن ترميمه...‏

قاطعته بذهول: ترميم ما يمكن ترميمه، لكنه أهمل تجارته، وبدد أمواله، صار الكثير من المحتالين يتظاهرون أمامه بالفقر ليسحبوا أمواله وهو يصدقهم ويعطي، ويعطي بسخاء وبدون تفكير... ولم يعد يبالي بأولاده، صار يتهمهم بالضلال والطمع، ويبكي ألماً على وضعهم، يسميهم المضللين، وأنا...‏

-وأنت ماذا؟‏

غضت نظرها وقالت: في الواقع يجب أن أصارحك بكل شيء، فأنت طبيب، وأردفت، نفساني لم يعد يقربني أبداً، منذ حمى الدموع الروحية التي انتابته بعد صدور حكم الدعوى وتغيرات طباعه، ما عاد يشتهي أن يقترب مني، أكاد أصاب بالذهول، لا أكاد أصدق أن هذا الرجل الذي أحبني وكان لا يطيق الابتعاد عني، صار ينفر مني وينظر إلي تلك النظرة الباردة الأقرب للشفقة.‏

-ألم تناقشي هذه المسألة معه؟‏

-أجل، لقد اضطررت لمناقشته في مواضيع حرجة، لا تتمنى امرأة أن تبادر بمناقشتها مع زوجها.‏

-وماذا قال؟‏

-قال بعد أن أجبرته أن يقول شيئاً: صحيح أن المسافة بيني وبينك شبر، لكن المسافة بين روحينا أميال.‏

-ألم يقل شيئاً آخر؟‏

- لا أبداً.‏

ابتسم الطبيب وتفرس في وجه السيدة رحاب وسألها بلهجة مرحة: لو كانت علاقتكما الجنسية كزوجين مستمرة، هل كنت تعتبرينه مجنوناً؟‏

تضرج وجه السيدة رحاب وقالت: أرجوك يا دكتور، لا تسيء الظن بي..‏

-إطلاقاً يا سيدة رحاب، هذه أمور بسيطة للغاية، لكني حتى الآن لم أجد سبباً مقنعاً لإدخال زوجك خانة المجانين.‏

قالت بحماسة حارة: كيف يا دكتور، لقد أهمل عمله، ونسي أسرته، وبدد أمواله، ونسي أصدقاءه، أتعرف من يعاشر هذه الأيام، المتسولين، إنه يجلس معهم على قارعة الطريق وأحياناً يراه الناس يذرف الدموع وسطهم، فهل هذا تصرف رجل عاقل.‏

لم يجب الطبيب، فألحت السيدة رحاب في السؤال قائلة:‏

-أرجوك قل لي، أهذا تصرف رجل عاقل؟!‏

-لنبتعد عن التسميات يا سيدة رحاب، أنا أفضل أن ألتقي زوجك، إنما عليك أن تعرفي أن تغير رؤية الإنسان للحياة بشكل عام ولحياته بشكل خاص يقتضي تغيراً في سلوكه وشخصيته، واضح أن زوجك أصبح يزدري المال، بل ندم على ممارساته القديمة..‏

قاطعته السيدة رحاب: وهل هذا طبيعي يا دكتور؟‏

قالتها بحرقة وقهر شديدين..‏

قال الطبيب باسماً محاولاً امتصاص انفعالها: في الواقع أفضل أن ألتقيه.‏

-وكيف علي إقناعه بزيارتك يا دكتور؟‏

-لا أظن الأمر مستحيل، سنتوصل لحجة ما، لوسيلة ما.‏

-لكني يئست تماماً من إمكانية عودته إلى ما كان عليه، بصراحة لقد تعبت كثيراً، صرت قلقة، سريعة التأثر، وعصبية، بل أحياناً تنتابني نوبة ذعر مفاجئة، أحس كأن القدر أحكم قبضته علي...‏

قاطعها الطبيب: في هذه الحالة أنت بحاجة لمساعدتي أيضاً يا سيدة رحاب.‏

نظرت إليه السيدة رحاب باستسلام وقالت: أجل..‏

-حسناً سيدة رحاب، سأكتب لك دواء مضاداً للقلق، أنصحك بالاسترخاء والتأمل والابتعاد عن الضجيج، لا بأس في أن تقضي فترة هدوء تغوصين فيها في أعماقك...‏

تناولت السيدة رحاب الوصفة الطبية وهي تحس بانكسار، ودعها الطبيب حتى الباب الخارجي للعيادة، لكنها قبل أن تغادر التفتت لتتأمل صورة الشاب المسترخي على العشب مستمتعاً بدفء أشعة الشمس، للحظات أحسته زوجها، بل شعرت كأن هناك تواطؤاً بين الطبيب وزوجها والصورة... لكنها تابعت خطواتها متعثرة بأفكار غريبة تزيدها تشوشاً وتوتراً.‏



**************للكاتبه / د. هيفــــــــاء بيطار ***************


 

رد مع اقتباس