عرض مشاركة واحدة
قديم 09-05-2008, 07:46 AM   #2
اسامه السيد
عضومجلس إدارة في نفساني


الصورة الرمزية اسامه السيد
اسامه السيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 19648
 تاريخ التسجيل :  03 2007
 أخر زيارة : 10-11-2020 (02:43 AM)
 المشاركات : 12,794 [ + ]
 التقييم :  94
لوني المفضل : Cadetblue


يتذكر عبارة ياقوت الحموي في "معجم البلدان"، قرأها في مرجع في سنوات الدراسة بكلية العلوم " رمل لا تدرك أطرافه عن يمين مطلع الشمس من حجر اليمامة".‏

تقعي وراء مرتفعات السراة في الغرب، تواجهك مرتفعات عمان من الشرق، وتحاصرك مرتفعات حضرموت من الجنوب.‏

يصل خيالك إلى " الوبر " البلدة الأسطورية، مدينة عاد وثمود كما يزعمون، وأحفاد لوذ بن نوح، ولكنك لن تلقى مصيرهم، ولن تدفن مثلهم تحت طوفان الرمال التي ابتلعتهم منذ آلاف السنين، وستطير بأجنحتك حتى موضع قبر هود، لتسأل بلهفة عن مصير قومه.‏

يناديك أصحابك وخصومك في مدرسة الحسينية الاعدادية بالعباسية "يا أعرج" وعندما تشاركهم لعب الكرة الشراب في "أرض النمسا" خلف مدرستك يتهرب الفريقان من اختيارك، فتقترح في أسى أن تقف حارس مرمى، فيوافقون على مضض،‏

تخصك أمك بعطف مفرط، ويقدر أبوك محنتك فلا يقسو عليك، وان عجزا عن مواجهة نظرة الادانة في عينيك: من أورثني تلك العاهة منكما؟‏

في سنوات الجامعة تراجع احساسك بالعجز، وازددت ثقة في نفسك، وان عرفت حدودك، ستحب "انتصار" زميلتك بالكلية طوال سنوات أربع بلا أمل حقيقي، حري بالقلب أن يسلم زمامه لأمل كوني، ولكنه يعرف حدوده أمام صرامة العقل، سيبقى سرّك فضيلتك الكبرى، وصمتك مزيه تقل في زماننا، تلتقط " انتصار" الرسالة من عينيك، تفضها ولا ترفضها وأن انتظرت البوح بك، فأي حكم كنت!‏

عانيت الأمرين يا فتى: خلاص البوح وسعير الكتمان، وستصفر بأغنية حليم "خايف مرة أحب" مئات المرات بشفتيك دون أن تغنيها.‏

تتبع أخبارها بعد التخرج، تزوجت ابن عمها ضابط الشرطة، وارتحلت معه بعيداً عن القاهرة أكنت عاشقاً من نوع خاص، أم أورثتك عاهتك الجبن والواقعية معاً؟ تسهر حتى الفجر، وعندما تستيقظ على جلبة الطفلين الوحيدين، تكون هي في الحصة الثالثة تقريباً، تقرأ ورقة التعليمات التي تكتبها كل صباح وتتركها فوق الكومدينو قبل ذهابها. للوساوس عفتها أحياناً، أصابك وسواس حديث العهد بشأن مالها، فأصبحت ترتاب فيه وتعافه..‏

تسأل نفسك أحياناً: هل هذا الطعام حلال أم حرام؟‏

تترك الطفلين وحدهما وتقصد السوق لتبتاع ما كتبته لك، تحدق إلى أوراق النقود وتشعر بتثاقل في يديك وأنت تلتقطها من الدرج، تحسد البرص الذي يروح ويجيء بلا رقيب، تتبادلان أسراركما، فتبوح بهمومك المختزنة وتطلب المعونة منه، ويقص عليك شجرة حياته ورأي بني جنسه في قضايا التوتر السياسية ويقدم حلولاً لأزمة السكان والفساد والبطالة.‏

تعتذر له عن ترفعك وقرفك عندما أمسكت بالمشرط في المعمل لتشرح برصاً صغيراً في أول سنوات الجامعة، كنت غرا وقتها، فلتصفح عني يا صديق، أي قاتل كنت!‏

تبحث سراً عن عمل، ولكن البلدة تضيق بك يا خريج العلوم.‏

تحدق في الطفلين خلسة. يشبه الطفلان أمهما، كأن المؤامرة اكتملت إلا أنهما حملاً روحك. تقلقه تلك المسافة بينه وبينهما، وقذفته صغيرته بالسؤال يوماً ما: لماذا لا تسير مثلنا يا أبي؟‏

أيهما أقدم في الوجود: البرص أم فريق الأهلي؟‏

تحدق في امرأتك في الفراش فتكتشف كائناً غريباً عنك، أصبحت تنطوي على عالمها الخاص، يقلقك هذا البريق المخيف في عينيها عندما تجلس لتعد النقود وتسجل حساباتها في الورق، تضيف وتطرح وتضرب وأنت لا تفهم.‏

أحياناً تحدثك بلهجة ثلجيةونظرة برقية سنتملك ونشتري ونقتني،تشعر بأن نغمة التملك في حديثها حبل مشنقة يلتف حول أعناقكم جميعاً، تبوح بضجرك فتلبسك وجه الفقر حتى لا تنساه. تكف عن سؤالها عن دخلها وعن مدخراتها، وتتعامى عن حليها الذهبية الجديدة التي تثقل يدها ورقبتها بلا توقف.‏

- طلبت منك مراراً التخلص من هذا البرص.‏

تناورها وتنتحل الأعذار، لا تسكن هذه المخلوقات أنانيتك ونظراتك الجشعة وأحلام التملك المستفز، في حديثك. لا تتذوق الأبراص المياه المعدنية ولا تضع "الكاتشاب" على الطعام ولا تعرف الزواج العرفي أوالخيانة الزوجية، فخليق بنا أن ننحني لها احتراماً.‏

هل تحدثه عن قيس الذي أبصر قبر امرأة غريبة ماتت ودفنت في الصحراء، فشهق من الحسرة مواسياً: أيا رفيقتي ونحن غرباء، وكل غريب للغريب نسيب؟‏

وفي الزمن القديم تصادق الديناصور والخنافس وكوناً شركة للاستيراد والتصدير، وكانت الكهوف فنادق خمسة نجوم، فهل عرفوا الدولار الأخضر في الزمن الميوزي، وهل بنى عثمان أحمد عثمان منشآت في قارة اطلانطيس الغارقة؟ وأول قبعة في التاريخ صنعت من درقة سلحفاة، وأول قرط ارتدته امرأة كان سحلية حية، وإذا كان حي العباسية موجوداً في زمن انسان الغاب، فهل كان يقع وقتها في ولاية كاليفورنيا أم في الريف الهندي؟‏

يذكر المرة الأولى التي خرجا فيها سوياً بعد الخطبة، شاقته نظرات المارة التي تتابع خطواته الملتوية المهتزة وشعرها الأحمر الداكن قبل أن تضع الحجاب، تكسرت نصالهم فوق نصاله القديمة وحاول أن يشاغلها بحديث مدهش ليجنبها حرج النظرات الفضولية.‏

يشغله اجتياز صحراء الربع الخالي الغامضة، يتوحد مع الرحالة المغامرين الذين عبروها من قبل: تشيزمان وتوماس فيلبي ويتسيفر يقطع معهم فيا في الأرض التي خاصمها المطر عشرات السنين.‏

يصير فيلبي يسكنه ذلك المغامر ويتوحد فيه، يصطحب مثله 20رجلاً و32 ناقة وثلاث اناث ماشية وحلم مكسور، يصيد 400 نوع من الطيور العربية، ويقطع مع رجاله مسافة 400 ميل من الصحراء المقفرة وراء مصايد الرمال التي تغني.‏

ستغني الرمال كما غنت لفيلبي، وتستطيل قدماك حتى تقفز ككنغر أو تمرق كغزال وستسرح أربع سنوات في هذه البلاد، ولكن سيحتضنك الحلم المدهش، وتخترق صحراء الربع الخالي الجهنمية في النهاية.‏

تشهد امرأتك على بطولتك، تنصب خيامك في حماريرآل زيوير، وتجتاز حصن داهيو ايبان المهجور، وتعثر على شظايا الفخار وأساور ذهبية، وترعبك هياكل عظمية لذئاب وضباع وبوم، هل سكن حلم اختراق الربع الخالي هذه الكائنات مثلك؟.. سأقفز دون وجل إلى قاع البركان الخامد في "وابر"، وأفتش عن قوم هود في قاعه، وأجول في حصون عاد بن الينعاد الأثرية، وأتوقف عند سليل في أقصى طرف الربع الغربي، ومنها إلى طريق الفيلة باتجاه قرية وصايل لأصل إلى مكة.‏

ستعبر الصحراء القاحلة هناك، وتعبرها هنا في صدرك، تعبرها مثل فيلبي وتتخلق انساناً جديداً خارقاً.‏

يحمل عبء يومي العطلة الأسبوعية: الخميس والجمعة، يشعر بغربتها، وتقضي وقتها مع الطفلين لعلها تلقنهما نهمها الجشع أو تحفر فوق وجهيهما وجوه العز، تنفرد بنفسها وأحلامها المخيفة، أو تصطحب الطفلين معها لتزور زميلاتها في المدرسة مخلفة وحدته.‏

تثقله اللحظة الخاصة، يمر موقف الاكتمال في آلية وسرعان ما يستردان الأنفاس ليتشرنق كل منهما في ذاته ويلفظان الشهوة المقدسة بعد الارتواء.‏

أتموج القاهرة بضوضائها الأثير إلى القلب؟ وهل لا يزال جرس مدرسة الحسينية الاعدادية الصدىء يقرع في جلبته العظيمة ليفزع المارين بشارع الجيش بالعباسية؟ وسراديب القصر القديم الذي تشغله المدرسة أكان غرفاً لتعذيب المعارضين أم موضعاً لممارسة النزوات الفاسقة؟‏

ومبنى العزبة الأصفر الكئيب في نهاية المدرسة، والمقصف والمكتبة ومخازن الكتب في سرداب القصر اتغيرت أم قاومت شيخوختها تقلبات الزمان، والقبة الزجاجية المعشقة بالخشب الملون التي تغطي سطح القصر أقاومت زلزال الأكاذيب أم تهاوت مع الأيام؟ ماذا فعل الزمان بالأستاذ محفوظ معلم الرياضيات؟ تتسلل إلى سطح المدرسة لتنفرد بنفسك وتتأمل القبة الأثرية، وتصغر قامات التلاميذ في الفناء وتسكنك قوة الكشف والسمو إلى أن يلمحك الشيخ دسوقي معلم اللغة العربية فيأمر الفراش الضخم أمين باحضارك وتقييدك لتنال جزاء مروقك وتمردك، يتدخل الأستاذ طلعت معلم التربية الرياضية ليخفف عنك العقاب، ويشيد بأخلاقك فتنال العفو.‏

تعاود التسلل إلى السطح مجدداً وتتمتع بالقبة الساحرة الملونة وتراقب أعشاش اليمام في تجاويفها وتمكث هناك تحت خيمة السماء.‏

يقترب العام الدراسي من نهايته، وتبدأ امرأتك في تكديس الهدايا ورشق البطاقات فوق كل هدية باسم صاحبها، تملأ أنفك رائحة الوطن، ويستعيد لعابك طعم النهر المقدس، ويحتويك حضن الأبوين العزيزين بالرغم من وهنهما. تنبت أجنحتكم في فصول العودة إلى الوطن، ويكبر قرار صعب في رأسك، ستقفز من البحر إلى السفينة الموشكة على الغرق رغم دهشة الركاب. لنغرق معاً أو ننجو معاً، ويهنئك فيلبي على اجتيازك الربع الخالي، عبر بنو وطنك القناة في حرب رمضان وعبرت أنت بحر رمالك العظيم بساقيك العملاقين.‏

ستتحرر من زوجتك وكل نساء العالم، وستعلن الوحدة الاندماجية مع فصيلة البرص، وتسترد حريتك مع عبيد سبارتكوس، وتعلن انتسابك إلى سادة روما، وستجوب شوارع العباسية بقدمين مسحورتين جديدتين، وتذعن امرأتك لمشيئتك وتقنع بلحم الوطن، وتبتلع مرارة العيش في الوطن الذي تعوّد لفظ أبنائه ونفيهم.. وستظل تفتقد في هذه البلدة الصموت صديقك البرص، فهل ستراسله بعد عودتك على عنوانه أم تحصل له على تأشيرة لدخول القاهرة والاقامة معك.‏

عند اقتراب العودة تغير امرأتك لهجتها إلى لهجة التودد، تخاف عذرك، ولكن تظل أصابعك متشبثة بحواف السفينة الموشكة على الغرق وتصمم أن تنضم إلى ركابها في كبرياء يليق بالرجال.



****************** الكاتب / محسن خضر ***************

(((((((((((( مع أطيب التمنيات بأسعد الأوقات )))))))))))))))))))


 

رد مع اقتباس