30-09-2002, 01:36 PM
|
#1
|
عـضو دائم ( لديه حصانه )
بيانات اضافيه [
+
]
|
رقم العضوية : 1463
|
تاريخ التسجيل : 04 2002
|
أخر زيارة : 21-10-2004 (05:57 AM)
|
المشاركات :
1,406 [
+
] |
التقييم : 10
|
|
لوني المفضل : Cadetblue
|
|
أنـــا
. . .
أنا من الخارج لي حدود لي سقف ينتهي عنده جسدي .. و لكنني من الداخل بلا سقف ..
و لا قاع ..
. . .
أنا .. كلمة ظريفة .. لا يوجد أظرف منها في الدنيا .. إنها أغنية ..
إنها تدخل في أي جملة فتجعلها جملة مفيدة مهمة .. و تدخل في أي موضوع فتجعله موضوع الساعة .. لأنه يصبح موضوعي أنا .. و فلوسي أنا .. و حبيبي أنا .. و روحي أنا .. و قلبي أنا ؟
و لكن أنا .. ؟ من أنا ؟
هل حاول أحدكم أن يسأل نفسه هذا السؤال ..
من أنا ؟ ..
أنا فلان .. فلان إيه .. فلان ابن فلان .. يعني إيه .. مجرد ألفاظ .
مجرد رموز أو إشارات تدل على حقيقتي .. طيب و إيه هي حقيقتي ؟ ..
و هنا يبدأ اللغز .
ما هي حقيقتي ؟ ..
إني أحاول أن أمسك بوجودي و أكتشفه و أفحصه كما أفحص هذه المحبرة فأجد أنه وجود بلا قاع .. وجود مفتوح من الداخل على إمكانيات لا نهاية لها .. و ألقي بحصاة في هذه البئر الداخلية فلا أسمع لها صوتا .. لأنها تهوي و تهوي إلى أعماق بلا آخر ..
أنا من الخارج لي حدود .. ينتهي طولي عند 170 سنتيمتر .. لي سقف ينتهي جسدي عنده .. و لكني من الداخل بلا سقف و بلا قعر ..
و إنما أعماق تؤدي الى أعماق .. و أفكار و صور و أحاسيس و رغبات لا تنتهي الا لتبدأ من جديد كأنها متصلة بينبوع لا نهائي .. و هي أعماق في تغير دائم و تبدل دائم .. بعضها يطفو على السطح فيكون شخصيتي و بعضها ينتظر دوره في الظلام ..
و أنا في الخارج أتبدل أيضا .. الواقع يكشط هذه القشرة التي تطفو خارجي فتطفو قشرة أخرى من عقلي الباطن محلها ..
و كلما أمسكت بحالة من حالاتي و قلت هذا هو أنا .. ما تلبث هذه الحالة أن تفلت من أصابعي و تحل محلها حالة أخرى .. هي أنــــا .. أيضــا ..
شيء محير !! ..
و أنظر حولي في العالم .. فأجد أني أعوم في هذا العالم كما تعوم البطة في الماء .. تجدف فيه بريشها و لا تبتل و إنما ينزلق من عليها الماء كأنه من عنصر آخر غريب عنها ..
أنا متصل بالعالم منفصل عنه في نفس الوقت ..
إنه يدخل في تكويني بحكم المسكن و المأكل و المشرب و الاتصال بالآخرين .. و لكنه غير ملتصق بي .. إنه يذكي شعوري و يثير اهتمامي فقط .. و بمقدار اهتمامي أظل على علاقة به فإذا انتهى اهتمامي نفضته تماما كما تنفض البطة الماء من ريشها حينما تصل إلى الشاطىء ..
إني أحتضن العالم باختياري و أخلع عليه اهتمامي و شخصيتي و أتبناه و أظل مصاحبا له طالما هو .. أنا .. فإذا انتهت هذه العلاقة الأنانية .. عدت إلى نفسي ..
و لكنني لا أنجو مع هذا من الابتذال .. و التردي في هوة اليأس ..
العالم يبتذلني أحيانا فأذوب فيه بعض الوقت .. أفعل ما يطلبه مني رئيس تحرير المجلة التي أعمل بها و أؤدي ما يطلبه مني مدير المستشفى الذي أشتغل فيه طبيبا ..
و أخضع لروتين العادة و العرف و المجاملات و أضيع نفسي في الثرثرة و أختبىء وراء المشاكل اليومية .. و أتستر خلف الناس .. و أقول و أنا مالي .. هم عاوزين مني كده .. الدنيا كلها بتعمل كده ..
و في هذه الحالات تضيع مني نفسي .. تضيع مني .. أنا .. و أصبح موضوعا من الموضوعات مثل الكرسي و الشجرة و الكتاب .. و أفقد الشيء البكر الذي يميزني عن كل شيء .. و يجعل مني نسيج وحده ..
يجعل مني .. أنا .. فلان الفلاني ..
هذه أوقات لا أحس بها .. و إنما تبدو ممسوحة و مشطوبة من حياتي .. تبدو
فترات موت ..
حريتي تعذبني .. لأني حينما أختار .. أتقيد باختياري .. و تتحول حريتي إلى عبودية و مسؤلية .. و هي مسؤلية لا ينفع فيها إعفاء لأنها مسؤلية أمام نفسي .. أمام الاختيار الذي اخترته أنا ..
و ليس أمامي سبيل غير أن أختار .. لابد أن أختار كل لحظة .. فإذا أضربت عن الاختيار .. كان إضرابي نوعا من الاختيار .. علي أن أدفع ثمنه فورا ..
و حبي يعذبني لأني أريد أن أمتلك محبوبتي و أذيبها في داخلي و أشرب شخصيتها و روحها و جسدها .. أريد أن أحولها إلى .. أنـا ..
و هذا مستحيل لأنها هي الأخرى لها .. أنا .. و ذات حرة مثلي ..
إن كل ما نستطيعه هو أن نتعانق و تتلامس شفاهنا .. و تتلامس حقائقنا و أسرارنا في لحظات مضيئة .. ثم نمضي إلى حالنا .. كل واحد مغلق على سره .
إن كل ما نملكه هو أن نفتح نوافذنا على الخارج ، و لكننا لا نستطيع أن ننقل عفشنا .. و نسكن بيتا جديدا .
إن روحنا سر .. و ذواتنا قدس الأقداس ..
إن الله يضع كل جنده على باب ذاتنا كما يقول طاغور .. و لا يسمح لأحد منه بالدخول فيها .. لأنها حرم .. حرمها على الكل .. و خلقها حرة كالطائر الغرد ..
. . .
ماذا هناك .. ماذا وراء الباب ..
ماذا بداخلي ..
إرادة . إرادة لا نهائية لا حد لها إلا نفسها .. إرادة حرة خالقة مبدعة ..
تنبثق انبثاقا في بداءة و فطرة .. أحسها و لا أعرفها أكابدها و لا أفهمها ..
لأنها تفر مني كلما حاولت فهمها كما يفر النوم من عيني كلما حاولت أن أتعمقه و أحلله .. و ربما كان السبب أنها أصيلة .. أكثر أصالة من العقل و التفكير و لا يمكن أن تكون موضوعا للعقل و التفكير .. بل العكس هو المقبول .. أن يكون العقل موضوعها و خادمها .. و سبيلها إلى بلوغ أهدافها ..
أنا أريد .. و العقل يبرر لي ما أريد .. و ليس العكس أبدا ..
إن كل شيء خاضع للإرادة .. ثانوي بالنسبة لها ..
في لحظات إبداعي و خلقي .. في اللحظات التي أحس فيها أني أخلق نفسي و أخلق الأفكار و القيم و أكتشف العالم و أصنع المعقولات
أحس أني أدفع العالم كله أمامي .. أدفعه كالعربة ..
و في اللحظات التي أموت فيها و أسقط في هوة العادة و التكرار و التقليد و المجاملات و الروتين .. و تضيع إرادتي من يدي .. أحس بأن العالم كله يدفعني أمامه كالعربة ..
أحس أن إرادة الحصان في الطريق يمكنها أن تعدل طريقي و تغير سِكّتي ..
أحس بأن عين جاري تجعلني أنكمش في ثيابي * * * * * * * * * * * * ..
لا شيء في الدنيا أكبر من الإرادة ..
الظروف المالية .. و البيئة و الوراثة .. لا تلغي الإرادة و لا تمحو الحرية أبدا .. و لكنها تؤثر فيها .. تؤثر في الكيفية التي تعلن بها عن نفسها ..
أنا و الظروف نتصارع في لحظة الفعل فقط .. و لكن كلا منا له وجوده البكر .
أنا حر و إرادتي حقيقية .. تماما كما أن الظروف موجودة و حقيقية .
و لكن ماهي الإرادة ؟ ..
لا توجد كلمة تصفها أو تشرحها .. لأنها أكبر من كل الكلمات و لأنها تحتوي على كل الكلمات و تتجاوزها .. فكل وصف يبدو حيالها ناقصا ..
إنها كالشوق لا يوصَف و إنما يُكابَد ..
إنها تنطبق عليها كلمة المتصوف الصالح أبو البركات البغدادي :
أظهر من كل ظاهر و أخفى من كل خفي ..
إن أحسن طريق لمعرفتها هي أن تباشرها .. فهي المفتاح السحري الذي تفتح به الكون كله ..
و لكن هناك أسئلة تتوارد على خاطرنا ..
هل الإرادة موجودة في الزمان ..
هل هي تنبض مثل القلب ..
هل تنمو مثل الجسد ..
هل تتعاقب مثل اللحظات .. و تنقضي مثل الحالات النفسية .
هل تسري مثل الضوء و الكهرباء و تنتقل كما تنتقل الحرارة ..
و هي أسئلة تفتح علينا الباب على مشكلة أخرى هي .. الزمان ..
ما هو الزمان ؟ ..
هل هو حركة عقرب الثواني و الدقائق و الساعات ؟ ..
هل هو دقات ساعة الجامعة ؟
هل هو الأرقام العامة التي تنشرها مصلحة الأرصاد عن توقيت الأيام و الليالي و ساعات الظهر و المغرب و العشاء ..
أم هو زمن آخر خاص يعيشه كل واحد منا في نفسه و يضبط عليه وجوده ..
إننا بهذه الأسئلة نبلغ المنطقة التي يكثر فيها الضباب و تصعب الرؤية ..
إنها تحملنا إلى تحت ..
إنها تنزل بنا من الأوراق إلى الساق إلى الجذر .. إلى ما تحت الخشب و اللحاء ..
إلى العصارة التي تصعد في نباتنا فتبعث فيه الحياة ..
إننا ننفض يدنا من تشريح الأيدي و الأرجل و نبدأ في بحث الحركة نفسها . و نكف عن قياس قوة العضلات لنبحث في الإرادة ذاتها .. لأننا في غرفة الموتور حيث أنبوبة الاحتراق التي تبعث كل الطاقة ..
و هنا تتصادم الأفكار و النظريات و المذاهب في الظلام ..
- - -
من كتاب : لغز الموت .
لمؤلفه : د . مصطفى محمود .
|
|
|