الموضوع: الطاعون .
عرض مشاركة واحدة
قديم 25-12-2008, 01:22 PM   #2
qaswara
عضـو مُـبـدع


الصورة الرمزية qaswara
qaswara غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 10666
 تاريخ التسجيل :  11 2005
 أخر زيارة : 11-04-2024 (01:35 AM)
 المشاركات : 484 [ + ]
 التقييم :  10
لوني المفضل : Cadetblue


.../ ...

و تمر الأيام...ليجد (حسين ) نفسه قد رمت به الأقدارُ في بلد غير البلد الذي فيه درج، ومنه خرج ، مقطع سرته، ومجمع أسرته ، بلد أنشأته تربته، وغذاه هواؤه ورباه نسيمه، وحلت عنه التمائم فيه...
بلد غريبٌ لا يرى فيه إلا زمهريرَ شتاءٍ سيلا عرما يُمزن و يُمطر في كل الفصول ، يتخلله رعدٌ وبرق وصيِّبٌ ينهمر ويدمِّر، يتحوَّل في لمح من بصر إلى برد قارس في شكل تركيبة عجيبة من الصقيع .
يجلس (حسين ) حول الموقد .. و تمر الليالي ذوات العدد يفكر ما حاق به كلما أحس بظلم . يترأى له من بعيد هياكل الأموات التي عاشها في بلده الأصلي .. ثم يرنو إلى بنت عمه (فاطمة ) فلا يرى فيها إلا أشباه الأحياء،فقد حاق بها ضيم ظاهرا . إذ أخذ القدر عائلتها هي الأخرى، و كأنها تعرضت لغدرٍ أو خديعةٍ ، فما ذنبها ؟.. يرى فيها طفلة مسكينة ، تقوم بإدراك مبهم في دواخلها ، فلا تهدي السبيل ولا تؤنس ما حولها .. فلا آهات تطلقها ، و لا تبرم يعلو محياها .
و يسير الزمن بطيئاً كدقات ساعة خشبية رتيبة و مملة ... و مع هذا فقد مرت ثلاثة أعوام . فإذا بـ (فاطمة ) الطفلة الخرساء صارت فتاة ذات الثمانية عشر سنة تفيض أنوثة و جمالاً .. و تبدأ معها رحلة أخرى من الشقاء و العذاب كانت تتظاهر بالود والصفاء، تصد الخطر حينما تتوجس خيفة من هذا وذاك، بقلب كسير معتصر، ولكنها تصبر تصابر في المواجهة ولا تنهزم، بعقل جاهل مشبع بالأساطير، ولكنها تدرك بالحدس المصائد وتحاذر، وبعقيدة غامضة كالخرافة، ولكنها راسخة في الصدر تقيها وتحميها عند كل مبادهة أو مخاطرة ،أو حيفٍ . فتثور و تستنفر و تصارع و تقارع دون توانٍ أو وجلٍ أو خورٍ ... و هكذا كان دأبها ، لدرجة انها أقبلت على الانتحار مرتين لتترك المجال لـ (حسين ) لحيا حياته . و لكنّ القدرَ أبى لها إلاّ ان تعيشَ.
كل هذا و (حسين) يقارن ويمايز، ولو على سبيل الحدس والتخمين... و بعد ارهاصات اهتدى إلى أمر و هو الزواج منها ... و تزوجا ...
و نظراً لعاهتها و عدم اطلاعها على الاسلام بالقدر الكافي ، و كان ايمانها اقرب ما يكون إلى الوثنية...إذ جعلت من زوجها "رباّ" لها .. فاحبته حب المرأة للرجل ، و أجلته إجلال العابد لمعبوده ... و تعلمت مهنة الخياطة ، و اصبحت تخيط الملابس لأهل البلدة ، حيث ساعدت زوجها على شظف العيش و قساوة الحياة . فانقلبت حياتهما من حال الى حال.
عاشا خمس سنوات كزوجين متاحبين في صمتٍ .. اقل ما يقال عنهما أنهما يعيشان لا ليفكران ويتدبران ، بل كان حالهما كسائمة صامتة تسمى تعوُّدا وعادة حيوانا أعجمَ لا يبتئس ولا يستبشر...
فتساءل (حسين) في قرارة نفسه : هل هناك مخرج من هذا الصمت و هل يبقى أبدياً ؟ ... فلا هو وجد هدىً ، و لا هو اهتدى إلى جوابٍ ..فلا يلبث أن يتمتم بلسانٍ لاهجٍ يتضرع به لخالقه ، وحوقلة متصلة لا تنقطع إلا بسنة من نوم عابرةً خاليةً من الأحلام.
و تنتاب (فاطمة ) من حين لآخر نوبات عصبية و احتار زوجها في الامر ، و كيف السبيل الى معرفة عصبيتها ، فإنها لا تجيبه حتى و لو كانت ناطقة ، فما بالك بخرساء .
و عاد مرة (حسين) الى المنزل على غير عادته .. فوجد المسكينة تريد إسقاط ما في الأحشاء . فهاله ما رأى .. فنهرها و انّبها على فعلتها .. فاشارت له ، أنها لا تريد زيادة عذابه و آلامه بطفل قد يكون أخرس مثلها ...فعانقها و بكي لاول مرة أمامها .. و أشار عليها : أياكِ أن تفكري مرة أخرى بهذا التفكير .
وما هي إلا بضعة شهورٍ ، و رزقا بطفل اختار (حسين) له إسم( رابح ) ...
لكن (فاطمة) لم تبتسم ، و لم يعلو محياها انشراح ، حتى بدأ (رابح ) يحدث بعض الأصوات فتأكدت أن فلذة كبدها ليس بأخرس . فانقلبت كآبتها إلى سعادة .
ملأ (رابح) حياة والديه ، و أدخل المرح و الحبور إلى قلبهما ... فاقسم (حسين ) أن يجعل من ابنه طبيباً ليعود به الى بلده ، حتى إذا عاد الطاعون الى قريته ، سيقوم (رابح ) بعلاج المرضى مجانا.
و تمضي الأيام .. و يدخل (رابح) المدرسة ، فالثانوية ، فالجامعة ... و دخل كلية الطب كما أراد له أبوه .. و كان طالباً متألقا ، فقد نال محبة أساتذته له ، و احترام زملائه و زميلاته .. حيث كان الطالب العربي الوحيد في ذلك الوقت الذي يبلغ شوطاً بعيداً ، و شأواً عاليّاً في دراسة الطب .
فأما (حسين و فاطمة ) فقد تفانوا من أجل أن ينظرا البسمة على وجه و حيدهما .. و اصبح شغلهما الشاغل هو إسعاده يفرحان إذا فرح ، و إذا غضب فيومهما كؤود ، وليلهما أليل .
لكنّ رابح كان بارّا بهما . و عندما يعتريه بعض القلق ، أو تصادفه بعض المشاكل فلا يظهر ذلك لهما ، بل تراه يظهر لهما الفرح و البشاشة ... و في غمرة أفراحهما و سعادتها . لأن وحيدهما الشاب على قاب قوسين من التخرج ، و لم ينقص لذلك سوى ثلاث سنوات .. فإذا بالإعلان عن استقلال بلدهما الأصلي .
فيقرران العودة الى بلدهما بعد إثنين و ثلاثين سنة من الغربة عن الوطن .و عاد (حسين و فاطمة ) بصحبة وحيدهما (رابح )..
و لكن حدث ما لم يكن في الحسبان .


... يتبع


 

رد مع اقتباس