25-12-2008, 01:28 PM
|
#5
|
عضـو مُـبـدع
بيانات اضافيه [
+
]
|
رقم العضوية : 10666
|
تاريخ التسجيل : 11 2005
|
أخر زيارة : 11-04-2024 (01:35 AM)
|
المشاركات :
484 [
+
] |
التقييم : 10
|
|
لوني المفضل : Cadetblue
|
|
.../ ...
و بدأت السيارة تخترق السهو و البطاح في طريق ذي منعرجات أشبه ما يكون بحية رقطاء ، يحفه من الجانبين أشجار الصنوبر الباسقة و الوارفة الظلال ، يتخلل ذلك الطريق أودية و شعاب أقيمت عليها قناطر في هندسة عجيبة ، أبدعتها أيد ماهرة ، و تلوح بين الفينة و الأخرى طواحين الهواء و هي تدور حالة هبوب الرياح ... و بعد ساعة و نصف بانت لهم من بعيد مزرعة واسعة الاطراف بها بساتين غناء لأصنافٍ من أشجار التفاح و الكمثرى و الخوخ و المشمش و الكروم... في تنسيق جميل يُخيّل للرائي أنه يرى لوحة زيتية رسمها فنان ماهر...
أخرج (رابح) من جيبه ورقة ، و قال : ـ أظن أن هذا هو المكان الذي نريد حسب ما هو مكتوب في الورقة التي كانت قد أعطتها لي ...
وقفت السيارة أمام المدخل الخارجي للمزرعة ، و استفسروا عن صاحب المزرعة من الحارس ... فتأكدوا أن (فرنسواز) تسكن فعلاً هنا ... فطلبوا من الحارس أن يفتح لهم ، لأنهم أتوا يريدون تقديم العزاء لأهل الدار .ففتح لهم ... و ما هي إلا لحظات سيراً بالسيارة حتى وجدوا أنفسهم أمام منزل كبير و فخم ، أشبه ما يكون بقصر أنيق . تحيطه من كل الجوانب تقريباً شجيرات الورود و الأزهار مختلفة الألوان مع بركٍ مائية تسبح فيها شتى أنواع من الأسماك و الطيور المائية .
و عند وصولهم أمام المنزل وجدوا رجلاً في الخمسينات من عمره ، ظهرت عليه علامات الحزن ، يكاد يخفيها ... فتقدم إليه (رابح) و قال : ـ سيدي أنا زميل للآنسة (فرنسواز) في الجامعة ، جئت لأتحدث معها في أمرٍ ما ... ترى هل هي موجودة الآن ؟..
ـ نعم ! إنها بالداخل ، و أنا (بيرنار) أبوها .
ـ عفواً ! ياسيدي تعازينا الحارة ... و هؤلاء أبي و أمي..
تقدم (حسين و فاطمة ) لمصافحة الرجل و تقديم واجب العزاء ... فشكرهم و ادخلهم صالون الأستقبال . و طلب من أحد في المنزل أن يخبر (فرنسواز) بان ضيوفاً جاءوا لتقديم العزاء .
نزلت (فرنسواز) وهي ترتدي لباس الحداد ، وما إن رأت (رابح) حتى انهارت باكية ... فرقّ لحالها ، و تقدم منها و قال لها : ـ تعازي الحارة يا (فرنسواز) و صافحها ، و قدّم لها والديه . فشكرتهم ، و لكنها بقت واجمة و صامتة ... و ساد صمتٌ ... فقطع والدها ذلك الصمت موجهاً الكلام إليها : ـ أ ليس هو ذلك الطالب العربي الذي كنتِ تحدثينا عنه من حين لآخر؟.. فهزّت رأسها ، أي : نعم !.
قال (بيرنار ) : ـ نعم الفتى هو ، و أكرم به من زميلٍ لكِ.
همس (رابح) في نفسه : ـ يظهر أن لي مكانة في قلبها ... و فرح في أعماقه..
و ما هي إلا دقائق و قال (حسين) : ـ إن السيارة بأنتظارنا ، فهل تأذن لنا يا سيدي بالانصراف ؟...
ـ نعم ! لكَ ما تريد ياسيدي ، و اشكر لكم صنيعكم هذا ، و لن أنساه ما حييت ... و لا اراكم الرب يسوع مكروهاً...
و وقفوا للانصراف ، فرافقهم الرجل و ابنته حتى خارج المنزل ... و قبل أن يمتطوا السيارة تقدم (رابح) من (فرنسواز) و قال لها : أتمنى أن تتغلبي على احزانك ، و ان تعودي إلى الجامعة في أقرب وقت ...
ـ سأفعل ، و سأعود ... و اقتربت منه متمتة : و ان تصارحني ، و ألا تعود إلى صمتك المعتاد ..
أحبت (فرنسواز رابح) و عشقته ، مما جعلها تخرج من أحزانها بسرعة، كما أنها رأت فيه فارس احلامها ، و الرفيق الذي تبدأ معه مشوار الحياة ... و بادلها هو حبّاُ صادقاً و عفيفاً . فلا ينظر إلا إليها ، و لا يحلو له الوقت إلا معها.
أردت (فرنسواز) أن تعرف كل شيءٍ عن( رابح )، لدرجة أنها بدأت تقرأ عن العرب و عن الإسلام ، حتى تعمقت في ذلك ، فهداها الله و اعتنقت الإسلام عن درايةٍ و فهمٍ . لا لكون صديقها عربيا مسلما، و أصبحت فيما بعدُ تسمى (عائشة) ... و لم تطل الصحبة ، و تزوجا ..
تخرج (رابح و فرنسواز) و عملا كطبيبين في ارقى المستشفيات و المراكز الصحية الجامعية، و كم كانا ناجحين في عملها . و نتيجة حبهما و تفانيهما في مهنتهما مرتِ الأيام و الأعوام سراعاً و لم يتفطنا لقضية الإنجاب حتى تقدم بهما العمر نوعاً ما ...
و بدأ القلق و الخوف يسريان في نفس (حسين ) خائفاً من أن ينقرض نسل العائلة ... و كم كان يعود من حين لأخر بذاكرته للوراء ، و كيف هرب من الطاعون من اجل البقاء ... فهو لا يريد أن رحلة الحياة تنتهي هنا... و كم كانت (فاطمة) تتألم في صمتها الأبدي . و لكنها كانت تربت من حين لآخر على كتف زوجها في إشارة : ألاّ تقلق ... فيحاول (حسين) أن يصرخ في وجهها و لكنه لا يفعل ، لأنه يعلم أن صراخه سيذهب أدراج الرياح ، و لن تسمعه .
و ما إن تفطّنت (عائشة) لآلام حماها و حماتها و قلقهما اعتذرت لها ، لأنهما كانت تجلهما و تحبهما حبّا جمّا ... و ما هي إلاّ شهور و بان حملها . فخدمها (حسين و فاطمة) و صارا رهن إشارتها ، و شاركهما في ذلك (بيرنار) والدها ... و كم كانت تعاتبهم ثلاثتهم على ذلك.
و جاء يوم ولادتها فكان طفلا . اختار كل واحد له إسماً ، و لكنه اشتهر بـ (علي) . فكان السعادة التي جلبها إلى العائلة و خصوصاً الجد (حسين )و الجد( بيرنار) و الجدة (فاطمة) ... مما جعل الجد (بيرنار) يتنازل عن المزرعة و يسجلها باسم ( رابح و عائشة ) ... و انتقلت كل العائلة الى المزرعة بما في ذلك الجد (حسين ) و الجدة (فاطمة ) ... و ما هي سوى خمسة عشر شهراً و لحق (سعيد) بأخيه ، فكانت السعادة بأسمى معانيها قد حلت بالعائلة ... و لم تتأخر (أمال) إلاّ بعامين و بضعة أشهر ، و جاءت الى هذه الحياة لتنافس أخويها في ذلك الحب العائلي .
كل هذا رجع به (علي ) إلى الوراء و هو يجلس بمكتبه بعدما خرج من عند المدير العام ...أرسلها زفرات ، فسالت من عينيه عبرات ... و قال يخاطب نفسه : إذا كان جدي خرج هرباً من الطعون حذر الموت ...ساعود هذه المرة أنا لمواجهة الطاعون ، ولابد من القضاء عليه ... و لكن الطاعون هذه المرة يختلف ... فهو طاعون الجهل ، و طاعون الفقر ... و هل هناك من هو افتك منهما؟!.
ـ اللهم عونك فيما اخترته لي ....
ثم أغلق باب مكتبه و خرج ...
انتهى.
|
|
|