" ثرثرة رحلة " أو المقامة القطارية .
بسم الله الرحمن الرحيم .
حدثنا قسورة ، قال :
كان لي سفرٌ بعيد ، قمت به إلى مدريد ، فامتطيت قطارًا قد سابق الرياح، وجعل يخترق الهضاب والبطاح .. فبينما قد أخذت مقعدي للجلوس، مع خلق الله، فمنهم البشوش و منهم العبوس . فإذا بصديق قديم يرنو إليّ في قلق ٍ ، و هو غير مصدّقٍ .. فبالكلام بادرته، أنت فلان حين سألته .. فأجابني، أنت علان وعانقني ...
و بعد تجاذب أطراف الحديث ، و عن العمل كان التساؤل الحثيث .. بادرني ،أتعلم تاريخ هذه الأراضي الشاسعة ؟.. أنها الأندلس الفردوس الضائعة .
و أخذ زمام الكلام و ذكّرني ـ حين جادلني ـ بالقصةالصادمة،....والحقيقة المؤلمة. التي تقول : إن ضياع الأندلسِ ، موطن الطمأنينة و الأنسِ من أيدي عرب، بعد ثمانية قرون و بلا حرب ، من بناء واحدة من أرقى الحضارات ومدنيّة فاقت كل الأزدهارات ...
و حسبك بما كُتِب عنها نثرًا ، وما قاله ابن خفاجة شعرًا :
يا أهـل أندلـس للـه درُّكمُ ****** مـاءٌ وظــــلٌ وأنهار و أشجار
ما جنة الخــلد إلاّ في دياركمُ ****** ولو تخيرتُ هـــذا كنت أختار
و لكن أهاج حزني و كمدي ، حين ذكّرني بشعر أبي البقاء الرندي :
لكـلّ شيءٍ إذا ما تـمّ نقصـانّ ****** فلا يغرّ بطيبِ العيش إنسانُ
هـي الأمور كماَ شاهدتها دولٌ ****** من سرّهُ زمنٌ ساءته أزمانُ.
فأزبأر صاحبي و زأر ، و حدجني ببصره و عكر ، ثمّ استجمع فكرة المقال ،بعد أن استرجع أنفاسه و قال :
إن ضياعها ، لم يكن عقب معارك عسكرية ، و لا انهزامات حربية ، هزمت فيها الجيوش الإسلامية ، لانعدام توازن القوة، و اتساع الهوة ، ولم تسقط آخر حواضرها في ثلاثة أسابيع ، كما سقطت بغداد في فصل الربيع.. وأنه ما بين تسليم مفاتيح قرطبة وسقوط غرناطة المغتصَبة ، قرابة القرن والنصف أو يزيد ، من الشهور و السنوات العديد .
فقلت له :
تالله ! كنت آمل في صاحب من الخلان ليسرني ، فإذا بك تسرد من الأحزان لتذكرني ، و سكن لساني الجرار و تهاطل دمعي المدرار ، و ساءني الحال و كدرتُ ، حين تذكرتُ قول الشاعر :
كم يستغيث بنا المستضعفون و هم ****** قتلى و أسرى فما يهتزّ إنسان .
فقال لي أزيدك من الشعر أبياتاً ، تمزق الفؤاد أشتاتًا :
يا رب أم وطفل حــيل بينهمـا ****** كما تفرق أرواح وأبـدان
وطفلة مثل حسن الشمس إذ طلعت ******كأنما هي ياقوت و مرجان
يقودها العلج للمكروه مكرهة ****** والعين باكية والقلب حيـران
لمثل هذا يبكي القلب من كمدٍ ****** إن كان في القلب إسلام وإيمان.
و تابع قائلاً: ذلك أن سقوط الأندلس كان بفعل انهيار داخلي ، و عدم اكتراثٍ و تصارع عائلي.. كان قوامه استشراءالفساد، و تعطيل مصالح العباد. فعمّ الخراب في البلاد.. و طغى الفساد السياسي و المالي و الأخلاقي في أوساط النخب الحاكمة ، وانتشر ذلك الفساد بالمؤانسة في جسم الأمة واقتداء العامة .
و توقف صاحبي فجأة عن الكلامِ ، و كأن به داء البرسام ، فخفت أن تكون لحظة السام ..
ثم قال لي : دعنا من ذلك العصر الغابر ،و لنعود إلى وقتنا الحاضر .. و انظر أحوال الأمة اليوم في المشرق، كما في المغرب العربيين ، تقترب من أحوال الأندلس في القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين.. حتى أنه يخشى عليها من التسليم الطوعي ، لمفاتيح ما بقي من الحواضر مجانًا لا البيعي .. طوعا من حكام هذا العصر، كما فعلها "عبادلة" الأندلس في ذلك الدهر..
و" صدام" يكون قد استجمع تلك الشجاعة ، عندما واجه بها جلاديه وحبل المشنقة في تلك الساعة ...
إحساس ٌ صادق ٌ أنه كان كبيرًا، حتى وإن أخطأ في إدارة دولته كثيرًا ، فحسبه ، أنه لم يرتكب خطيئة الاستسلام والتسليم ، كما يفعله نظراؤه بتسليم الأوطان لكل لئيم ...
فقلت : وماذا عن الرعية ؟ فهل يكفيها ماأصابها من بليّة ؟..
فقال لي : أنت َ غلطان ، و اسمع مني يا إنسان .
وكما نفعل نحن الرعية ، فقد انسلخنا من كل هويّة ، حين استسلمنا وسلّمنا أمرنا لهذه الزمرة الفاسدة، فطمعت فينا من هي على ديننا حاقدة ، و نهبت خيراتنا وليست لنا حامدة .. كيف نعيب ُ على حكّام ما هم عليه من تسفل ، و للأجنبي من تزلف وتطبل ، و على جميع المستويات، وسوء تسييرهم لمصالح الأمة و الإدارات ، وخضوعهم لكل للإملاءات ، هذا و دون ثورة لعدو أو مقاومات ..
يا صاح ! نحن نفعل حيالهم ماهو ألعن، و هل غيّرنا منكرًا مع أن لنا ألسن .. الكثير منا في إدارة عائلته الصغيرة قد أفلس ، و على جمع المال بلا عملٍ فحريص و أحرس .. و منّا من لا يتوخى السبل الحلال والطيب من القوت، و هو أحرص على حياة ٍ، لكن ّ مصيره الى الموت ِ.. ونفعل ما هو أسوأ بهذا الاستسلام الفظيع ِ، لزمرةٍ حاكمةٍ و نساقُ كالقطيع ِ، زمرة جمعت بين الفساد و الجور والاستبداد، و علت في الأرض و استعبدت العباد .
ولكن قبل أن نحاسب َ هذه الزمرة الفاسدة الفاشلة، و لخيرات البلد الناهبة و الآكلة .. نبدأ بمحاسبة أنفسنا كأفرادٍ أوائل ، وكأولياء على أسر ٍو عوائل .. ونراقب ُأنفسنا علناً ، مع من هم أقل قوة على البطش و شأناً..
كيف نشجب ، ما يبدو على حكام الأمة و نصرخ و نصخب ؟.و فينا مَن لا يجد غضاضة في تأييد الخطة ، و يغور سقطة تلو سقطة .. وفينا من لا يفتأ يهرول لدعوات و مساندة هؤلاء الحكام ِ، لإبادة ما بقي من العروبة و الإسلام ِ، حتى في دور التعليم ودور العبادة، بل وحتى في عقر الدار المعتادة ، إن لم يكن بعضنا قد سلّم مفاتيح غرفة النوم ، بعد أصبح رهن إشارة هؤلاء القوم .
يذكر نظام الملك في كتابه "سياسة تام" أنه باستطاعة حكومة أن تستمر مع فجورها مع العدوان ، لكنها لن تصمد بالقهر والطغيان.. ولم يخطر بباله ، و لا جال عن سؤاله ، أن الحكومات تستطيع أن تصمد وتستمر، لو جمعت بين والقهر والاستبداد ما شاء أن تعمر ، إذا كانت الرعية قد استسلمت للفجور والفساد ، الذي يعميها عن تحسس مواطن القهر و الاستبداد..
جاء أحدهم إلى علي ـ رضي الله عنه ،و كرم الله وجهه ـ ببعض الغمز في سياستِه ، و لم يفصح عما في دِرايتِه ، و يثني على من سبقه من الخلفاء و يمدح ، و كأني به في حكم عليّ يقدح ... فما كان من الإمام إلا أن قال " :لقد أُمّر هؤلاء على أمثالي وأُمّرت أنا على أمثالك"..
فكما نكونُ يولىّ علينا ، وهذه الزمرة الفاجرة المستبدة إنما أمّرت على أمثالنا، فكيف نحاكمها ، فنخاصمها ؟..
و انتهت الرحلة ....
و بعدئذٍ صمتَ صاحبي و سكن َ، لأنه فارقَ مثلي الأهلَ و الوطنَ
.. فتذكرتُ كم من قفارٍ جبتها ، و أوطانٍ زرتها.
|