الاحتفال بالمولد في ضوء الشريعة الإسلامية .
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.. وبعد:
كيف؟ لا أدري. لماذا؟ ....... ربمـا أنني يوماً عرفتُ السببا
عالمٌ يدعو بدعوى جاهلٍ!! ....... وليوثُ الحربِ ترجو الأرنبا!!
سؤال مبهم في مطلعه، لكنه محيِّر في خاتمته!! والإجابة عنه تختلف باختلاف ما يدور حول السؤال من مبهمات حياتنا التي كثرت، وكل منها يحتاج إلى أسئلة لكنها أحوج إلى إجابات تشفي.
كيف تصبح محبة الرسول صلى الله عليه وسلم حيدة عن دينه وهديه؟!
كيف تصاغرت همم الناس للاشتغال بذكر شمائل الرسول صلى الله عليه وسلم ومآثره في يوم أو بعض يوم من العام، ثم يُتناسى ويُهجر ذكره سائر العام؟!
ولماذا تنفق الأموال وتسير الجموع إلى مثل هذه المواقف، والمسلمون في كل أرض يذبحون ويتخطفون؟!
أسئلة تطرح نفسها مع كل موسم يتنادى فيه القوم لاحتفال من احتفالاتهم، والتي من أشهرها: الاحتفال بمولد المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي أجروه مجرى الواجبات، حتى أصبح من الشعائر التي يعز عليهم إغفالها أو ترك القيام بها؛ بل حسبوه ديناً لا يرون الحق غيره؛ مع تفريطهم في كثير من فروض الأعيان والكفايات فضلاً عن السنن والمستحبات.
وإنه مع إطلالة كل عام هجري أضحى من الواجب على أهل العلم وطلابه أن يذكروا إخوانهم المسلمين بهذا الأمر الذي لا يعين عليه إلا الله؛ فقد فني عليه الكبير، وكبر عليه الصغير؛ وذلك لأن الذكرى واجبة، نفعت أم لم تنفع، معذرةً إلى الله تعالى، ولعلهم أو بعضهم يتقون.
وقبل الشروع في المقصود وهو بيان حكم الشرع في هذا العمل، هناك تمهيدات ومقدمات لا بد من التنبيه عليها والإشارة إليها؛ لصلتها الوثيقة باستيعاب حكم الشرع في هذا العمل..
المقدمة الأولى:
ما حقيقة محبة الله عز وجل ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم؟ وما علاقة ذلك؟
إن حب الرسول صلى الله عليه وسلم إسلام وإيمان، وبغضه كفر ونفاق؛ بل لا يكتمل إيمان العبد حتى يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من نفسه وولد وماله، كما قال صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه.
وقد بين الله سبحانه وتعالى حقيقة هذه المحبة ودل على علاماتها حيث قال: ((قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ))[آل عمران:31] .
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله في تفسيره: (هذه الآية هي الميزان التي يعرف بها من أحب الله حقيقة ومن ادعى ذلك دعوى مجردة، فعلامة محبة الله اتباع محمد صلى الله عليه وسلم، الذي جعل متابعته وجميع ما يدعو إليه طريقاً إلى محبته ورضوانه، فلا تنال محبة الله ورضوانه وثوابه إلا بتصديق ما جاء به الرسول من الكتاب والسنة، وامتثال أمرهما واجتناب نهيهما).
وقال الشيخ أحمد شاكر رحمه الله في عمدة التفسير: (هذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادعى محبة الله وليس هو على الطريقة المحمدية، فإنه كاذب في نفس الأمر حتى يتبع الشرع المحمدي، والدين النبوي في جميع أقواله وأفعاله، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد} ، متفق عليه.
ولهذا قال تعالى: ((قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ)) [آل عمران:31] أي: يحصل لكم فوق ما طلبتم من محبتكم إياه وهو محبته إياكم، وهو أعظم من الأول، كما قال بعض العلماء الحكماء: ليس الشأن أن تُحِب، إنما الشأن أن تُحِب) ا هـ.
فحقيقة وعلامة محبة الله ورسوله هي اتباع أوامرهما، واجتناب نواهيهما، فالحب الوجداني وحده لا يكفي -على الرغم من أهميته- ما لم يكن مقروناً بحب الاتباع والانقياد والطاعة له صلى الله عليه وسلم؛ إذ لو كان الحب الوجداني وحده كافياً لنفع أبا طالب في الخروج من النار؛ فقد كان محباً للرسول صلى الله عليه وسلم، حامياً له؛ مادحاً له ولدينه.
ومن العجيب الغريب: قصر البعض -هدانا الله وإياهم سبل السلام- محبته صلى الله عليه وسلم على هذا الحب الوجداني، متمثلاً في إنشاد وتلحين قصائد المدائح التي لا تخلو غالباً من الغلو إن سلمت من الشركيات، ومتمثلاً في الرقص والتواجد، وإحياء الحوليات، والاحتفال بالموالد؛ بل لقد بلغ الغرور ببعضهم أن يحكم على من لا يقرهم على ذلك ويشاركهم فيه ويمارسه معهم، بأنه لا يحب الرسول صلى الله عليه وسلم!! وهذا لعمر الله من الافتراء المبين، والظلم المشين، والغرور اللئيم؛ حيث قلبوا الموازين وافتروا على رب العالمين، وتلاعبوا بسنة سيد المرسلين، وأجحفوا في حق إخوانهم في الدين، حيث جعلوا البدعة سنة، والمنكر معروفاً، والباطل حقاً.
المقدمة الثانية:
ليس هناك في الدين بدعة حسنة وبدعة سيئة؛ فإن البدع كلها سيئة وباطلة، وإن كانت متفاوتة في السوء؛ فمنها ما هو كفر، ومنها ما هو حرام، ومنها ما هو مكروه، وكلها مردودة على صاحبها، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإليك طرفاً من الأدلة على ذلك:
1) حديث عائشة رضي الله عنها في الصحيحين ترفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم: {من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد} ، ولمسلم: {من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد} ، وقد عد العلماء هذا الحديث من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم.
2) حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه وفيه: {...فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة ضلالة} . وكلمة (كل محدثة) نكرة في سياق العموم، وهي تشمل كل بدعة صغيرة كانت أم كبيرة، وسواء كانت قولية أم فعلية أم اعتقادية.
3) قول الله عز وجل: ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا))[المائدة:3] . قال الإمام مالك رحمه الله: (ما لم يكن في ذلك اليوم ديناً فلن يكون اليوم ديناً)، وقال: (من زعم أن الدين لم يكتمل فقد زعم أن محمداً خان الرسالة).
المقدمة الثالثة:
هناك خلط بين البدع والمصالح المرسلة، فإن المصالح المرسلة هي كل ما جلب خيراً أو دفع ضراً، ولم يرد في الشرع ما يثبته أو ينفيه، مع موافقته لمقاصد الشرع وحاجة الناس الماسة له، نحو: كتابة القرآن وجمعه في مصحف في عهد الخليفتين الراشدين أبي بكر وعثمان رضي الله عنهما، ونحو كتابة العلم، وتدوين السنة، واتخاذ المحراب، وسنِّ عثمان للأذان الأول للجمعة عندما توسعت المدينة وكثر الناس بها.. ونحو ذلك.
فهل هناك علاقة بين هذه المصالح المرسلة وبين المحدثات التي ليس لها أصل في الدين، نحو الاحتفال بالموالد والحوليات وما شاكلها؟ هل هناك من علاقة بين ما فعله السلف الصالح، واقتضته المصلحة، وحتَّمته الحاجة، وبين ابتداع الخلف لأمور ما أنزل الله بها من سلطان، ولم تؤثر عن عَلَمٍ من الأعلام؟!
اللهم لا وألف لا...
المقدمة الرابعة:
من المعلوم لدى الجميع -أي القائلين ببدعية الاحتفال بالمولد والقائلين بجوازه- أن الاحتفال بالمولد لم يكن على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا الصحابة الكرام، ولا التابعين لهم بإحسان، فلم يؤثر عن السلف الصالح رحمهم الله، إنما ابتدعه الفاطميون أتباع عبيد بن ميمون القداح اليهودي في القرن الرابع.
وبعد هذه المقدمات الأربع نقول وبالله التوفيق:
إن الاحتفال بالمولد النبوي وغيره من الموالد، وتخصيصها بذكر أو دعاء أو أناشيد أو دف أو صلاة أو أي عبادة أو شعار يتخذ فيها إعلاماً بهذه اليوم.. كل هذا بدعة ضلالة، ومنكر عظيم يجب إنكاره.
ولم يدل عليه دليل من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس صحيح، ولا حتى دليل عقلي ولا فطري، وما كان بهذه الصيغة فهو بدعة مذمومة.
قال الحافظ ابن رجب: (والمراد بالبدعة ما أحدث مما لا أصل له في الشريعة يدل عليه).
وقال أيضاً: (فكل من أحدث شيئاً ونسبه إلى الدين ولم يكن له أصل من الدين يرجع إليه، فهو ضلالة، والدين بريء منه، وسواء في ذلك مسائل الاعتقاد أو الأعمال أو الأقوال الظاهرة والباطنة).
والبدعة كذلك (ما لم يشرعه الله من الدين، فكل من دان لله بشيء لم يشرعه الله فذاك بدعة وإن كان متأولاً).
والاحتفال بالمولد من هذا القبيل؛ فإنه لم يدل عليه دليل؛ لا من الكتاب ولا من السنة، ولا من عمل السلف الصالح، فتبين بذلك أنه لم يشرعه الله تعالى، وما لم يشرعه الله تعالى فإنه بدعة محدثة، ولا عبرة بمن قال به أو عمل به، وإن كثروا؛ فإن الكثرة لا تدل على أن الحق معها؛ بل إن الحق هو ما دل عليه الكتاب والسنة.
وإذا كان البعض ينازع في بدعية المولد؛ فإن القاعدة الشرعية تقتضي رد ما تنازع فيه الناس إلى كتاب الله وسنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، كما قال الله عز وجل: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا))[النساء:59] وقال تعالى: ((وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ)) [الشورى:10].
وقد رددنا هذه المسألة إلى كتاب الله سبحانه، فوجدناه يأمرنا باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به، ويحذرنا عما نهى عنه، ويخبرنا بأن الله سبحانه قد أكمل لهذه الأمة دينها، وليس هذا الاحتفال مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فيكون ليس من الدين الذي أكمله الله لنا، وأمرنا باتباع الرسول فيه.
إذا تبين هذا فإن القول ببدعية الاحتفال بالمولد هو الموافق لأصول الدين وثوابت الشريعة، وتظهر صحة هذا القول من خلال الأوجه التالية:
|