عرض مشاركة واحدة
قديم 22-02-2010, 12:32 AM   #2
يحي غوردو
عضو دائم ( لديه حصانه )


الصورة الرمزية يحي غوردو
يحي غوردو غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 27460
 تاريخ التسجيل :  04 2009
 أخر زيارة : 23-03-2012 (02:38 PM)
 المشاركات : 950 [ + ]
 التقييم :  50
لوني المفضل : Cadetblue


مقدمة

ثمة تنصيب جديد في هذه الدراسة، يأمل أن يساهم في تحرير التاريخ من قدريته العمياء. قدريته الميكانيكية التي تجعل القارئ البريء يتميز من الغيظ عندما يقدم له المجذفون (أعني هؤلاء المؤرخين العاكفين على تفسير ألغاز التاريخ بالألغاز) خطاطة واحدة، مكررة، مبهمة، مخجلة… يتشابك فيها الاقتصادي بالاجتماعي بالسياسي بالثقافي تشابكا تجزيئيا بليدا أعمى، يضيفون كل مرة مياها جديدة لطاحونة القرف كيما تزيد من صريرها الناشز، فيبحثون في التاريخ الإنساني بذهنية لا إنسانية. شيء ما يدور في الذهن، يردهم دائما إلى مستنقع الرمال المتحركة لنفس العوامل إياها (اقتصادية/اجتماعية/ثقافية…) وكأنها قدرية محتومة، رغم زعمها اللاّ قدري، تخونهم في النهاية لكونها لا تتجرأ على اختراق هذه الآلية الاستسلامية، فتعود إلى الإنسان، ذي الأبعاد المركبة. صحيح يفعل فيه الخارج باقتصاده واجتماعه وثقافته… لكن الداخل أيضا يحركه، لأنه إنسان.

لكل هذا ينبغي نزع الثقة عن هؤلاء المجذفين، والبحث عن الرموز الفاعلة الرائدة عند الشروع في التأسيس لهذا الهيكل، على أنقاض هياكلهم الورقية الخائبة البلهاء، تلك التي ينبغي تقويضها بقوة وبلا رحمة، قبل إعادة التأسيس (ثم التأثيث) بحجم حقيقي متين.

ولأن التاريخ هو تاريخ الإنسان، بغرائزه الخفية، وتناقضاته المفرحة - المحزنة، ووعيه المتقلب الخؤون، فضلا عن إطاره الاجتماعي العام بتفاهاته اليومية العنيدة وروتينه العابر المكبل… لأن التاريخ هو كل هذا، وجب إذن استحضاره كله عند التفكير في إعادة بناء هذا الهيكل، حتى يستجمع التاريخ قوته، أقصد وعيه وانسجامه، فيستعيد بالتالي غايته.

لكن من منا كان مستعدا للتخلي عن دينه وديدنه الجارف، عن هيكله المبني الناجز، ويخوض في مغامرة تأسيسية جديدة غير مضمونة؟ من منا كان مستعدا للتسليم بما نصّبناه أصناما وأزلاما: الأسباب العميقة، العوامل غير المباشرة، البنية التحتية المحركة…؟ الأساليب والعبارات الجذابة التي ما ينبغي على كل مؤرخمحترف عاقل، عارف بأصول مهنته، أن يخلط بينها وبين السطحي، والمزيف، والعابر، أي التافه. لكننا كنا نشرد بالذهن بعيدا، وغالبا، عن التاريخ الحي النابض. نبدأ بالتساؤل: ما الذي حصل بالضبط؟ ثم نحلق بأجنحة متكسرة واهية حول أسبابنا العميقة التي لها هذه القدرة السحرية على تفسير كل شيء، لكننا نكتشف في النهاية تعاستنا، عندما نستفيق مذعورين، بعد كل الجهد والمكابدة، بعد اللأي والمعاناة…، إلى أننا انتهينا إلى حيث ابتدأنا، فنتساءل في حيرة ودهشة: لكن ما الذي حصل بالضبط؟

هل على الباحث في التاريخ إذن، أن يستدعي دائما، بأسلوب منمط محنط، قد يتجمل ببعض الجمل البلاغية واللغة المحذلكة، هذه العوامل (الاقتصادية/الاجتماعية/السياسية…) العميقة والتحتية لتحليل وقائعه، حتى يريح ويستريح؟

ألا يمكن أن نحاكم هذا الموروث، الذي يعمي عن الحق من خلال مسلماته التي لم تترسخ في الذهنية التاريخية إلا بكثرة التواتر والاجترار؟

ألم يحن الوقت بعد للحظة الصدمة/الاختراق، التي حصلت على بقية العلوم، حتى تحدث في مجال التاريخ بغية تثويره؟

هل لنا أن نركن، ونكتفي، بالتبويب المنصّب سلطانا على سببية تاريخية مزعومة، تستجدي استجلاء الغموض على بعض الوقائع، فلا تزيد على سحب الغموض على الباقي؟

هذه السببية الروتينية (الاقتصادية/الاجتماعية/السياسية…) المقنّعة المفضوحة، إن كانت سببا فعليا لشيء، فإنما لنفور القارئ/الباحث من تصورات تاريخية غير مستساغة، وقد آن الأوان لتأخذ حجمها الحقيقي ضمن الجينوم التاريخي.

أكيد أن الخطوة الأولى للطفل - وهو يتعلم المشي - تكون غير ناجزة تماما، لكنها مع ذلك خطوة أولى في طريق الألف ميل، تماما كالخطوة الحذرة هنا، ليس لأن المنهج المقترح مستحدث فقط[1]، لكن لأن موضوع افتراس الآدمي أيضا ليس ناجزا فعلا. فهو موضوع مقرف، نما كالطحالب العفنة على ضفاف مستنقعات الأزمنة الرديئة الآسنة، فانزوى منسيا في هامش الذاكرات الجماعية.

لكن ليس من قبيل الاستحالة على الممارسة التاريخية الحذرة، أن تكشف العلاقة السرية المقنّعة التي تربط الواقعة بأسبابها من خلال تضييق الخناق على المنزوي في الذاكرة، على المعتم في النص، عبر المساءلة والاستنطاق، خاصة إذا كان النص منكبا على المنسي أو المغيب ـ عرضا أو غرضا ـ في هذه المساءلة.

قطعا لا يمكن لموضوع يرد، غالبا، مندسا خجولا في النص (في سطر أو عبارة) أن يوفر ثراء نوعيا للمادة الخام المفترض تشكيلها، لذا ركزنا داخل النص على غير المسطور فيه، وقراءته قراءة مختلفة، نتمنى أن توصل بقراءات غيرها، متممة أو مراجعة لها، بغية تحقيق تراكم كمي نوعي على الموضوع ومنهجه المقترح. أما اختيار التاريخ المقارن فهو اختيار مؤسس له منهجيا، كما سيلاحظ القارئ، فضلا عن كونه يسد - نسبيا- ثلمة المادة المعرفية الشحيحة، غير أن المغامرة فيه - كما يعرف كل من امتهن التاريخ - مضنية وشاقة.

نقدم في هذه الدراسة ثلاثة نماذج لرموز السلطة الدافعة لولادة الحدث - والحدث هنا هو فعل الافتراس -:

رمز يبدو جوّاني المنزع، ينبع من الداخل، من المشاعر والنفسانيات، ولو ظاهريا على الأقل، ونعني به رمز اللذة. والرمز الثاني منزعه الخارج البراني، ولو ظاهريا أيضا، يبدو أكثر التصاقا بالمجتمع والثقافة، وهو رمز الثأر. أما الرمز الثالث فموضوعي فيزيقي محض، هو رمز الجوع.

هذا لا يعني أن الرموز الدافعة للافتراس الآدمي ثلاثة فقط، لكننا أردنا أن نعرض لثلاثة نماذج متباينة، عينة لموضوع الدراسة، على أن نترك بابها مشرعا لمن رام الكشف عن رموز جديدة لذات الموضوع.


 

رد مع اقتباس