04-12-2002, 06:15 PM
|
#2
|
عضـو مُـبـدع
بيانات اضافيه [
+
]
|
رقم العضوية : 638
|
تاريخ التسجيل : 09 2001
|
أخر زيارة : 15-07-2011 (05:43 PM)
|
المشاركات :
288 [
+
] |
التقييم : 10
|
|
لوني المفضل : Cadetblue
|
|
جلت في الأسواق ، وأسواق دمشق ليلة العيد كأنها المحشر ، قد أوقدت فيها المصابيح ، وفتحت المخازن ، وانتشر الباعة ، وتدفق عليها أهل البلد والفلاحون ، بالأزياء المختلفة واللغات المتباينات ، وكل بائع ينادي برفيع صوته ، وكل مشتر يصيح ،وكل مجتاز يتكلم ، والبضائع معروضات من كل مأكول وملبوس ومفروش ومنظور ومشموم ، وكل يريد أن يعد الليلة عدته للعيد فيشتري فيها طعامه ولباسه . . .
وكنت أسير في هذا الزحام شارد الذهن ، نازح الفكر ، أعمل عقلي في هذه القصة . . . التي وعدت بها المحطة فأعلنت عنها وبشرت بها ، ثم لم أستطع أن أكتبها ، حتى وصلت إلى ( باب المصلى ) ؛ فإذا أنا بحشد عظيم من الناس قد احتشد حيال دكان ، فدفعني الفضول إلى معرفة الخبر ، فأقبلت أدفع الناس بكتفي ، وأشق طريقي بيدي كلتيهما وأطأ أعقاب الناس وأقدامهم ، وأصغي إلى هذا الفيض العجيب من . . . النثر الفني . . . الذي جادت به قرائحهم ، فتدفق علي من ألسنتهم ، حتى بلغت المشهد ونظرت . . .
* * *
نظرت ،فرأيت اثنين يختصمان ويعتركان ، أما احدهما فكان مسكينا قميئا أعزل عاجزا ، وأما الآخر فكان ضخما طويلا كالح الوجه ، مفتول العضل ، وسخ الثوب ، قد حمل سكينا في يده طويلة النصل ، حديدية الشفرة ، وهجم بها على صاحبه والناس ينظرون ولا ينكرون ، وصاحبه المسكين يصرخ ويتلفت تلفت المذعور ، يطلب الغوث ولا يغيثه أحد ، ويبتغي المهرب فيسد عليه الناس طريق الهرب . . .
واني لأفكر ماذا أصنع . . . واذا بالخبيث العاني يذبحه والله أمامنا ذبحا ويتركه يتخبط بدمه ، ويوليه ظهره ويمضي الى دكانه متمهلا ، فيعالج فيها شأنه على عادته ، كأنه لم يرتكب جرما ولم يأت الأمر النكر جهارا !
وكدت أهجم عليه ، وأسلمه إلى الشرط . ثم ذكرت أن الشجاعة في مثل هذا الموطن تهور وحماقة ، وأن المجرم بيده السكين . لا يمنعه شيء أن يجأ بها من يريده بشر ، وطمعت أن يتحرك أحد الواقفين فيقدم عليه فأتبعه وأشد أزره ، فلا والله ما تحرك احد منهم ، ولا جرؤ على ذلك ؛ بل لقد تكلم واحد منهم ، فلما رفع القاتل رأسه ونظر إليه رأيته يجزع منه وفزع ، ويقول له بصوت مضطرب متلجلج : ( الله يسلم يديك ) !
وحرت ماذا أعمل : أأبلغ الشرطة ، أو أدعهم وأمضي إلى داري لا علي ولا لي ؟ ثم رأيت أن خير ما أفعل أن أكتب وصف ما رأيت ، وابعث به ليذاع ويعرفه الناس .
* * *
وهاأنذا أتهم الرجل بالقتل ،وأدعو الحكومة إلى القبض عليه حتى يعاقب ويكون عبرة لمن يعتبر . ولا يحسبن أحد أنه فر ، وأن القصة متخيلة أو مكذوبة ، أو انها من أساطير الأولين أو من أخبار العصور الخوالي ، فالقاتل موجود في دكانه يغدوا اليها ويروح الى بيته والقصة حقيقية صحيحة رأيتها بعيني رأسي وأنا سالم العقل غير مجنون ولا معتوه ، متيقظ غير نائم ولا حالم ، صاح غير مخدر ولا سكران ، ثم اني رأيتها اللييلة البارحة !
هذه هي الحادثة الفضيعة التي كتب الله أن تكون موضوع قصتي التي فكرت فيها وأطلت التفكير فكيف رآها الناس فلم يحفلوا بها ولم يأبهوا لها ؟ أفسدت الأخلاق ، وضاعت المروءات حتى لا ننكر الأمر النكر أم خارت العزائم ، وانخلعت القلوب حتى لا نجرؤ على المجرم الظالم ؟ هل نامت الحكومة في الشام نومة أهل الكهف حتى ما تدري بالدم يسيل في شارع من أكبر شوارع دمشق ؟
لقد سكت الجميع ، حتى أنسباء القتيل قد ناموا عن دمه ، وقعدوا عن الثأر له ، ولم يتقدم أحد منهم شاكيا ولا مدعيا لأن القاتل كما قالوا ، عازم على ذبحهم كلهم ان قدر عليهم ، وماضيه حافل بمثل هذه الجرائم
فما سر هذا السكوت ؟
لقد علمت السر بعد يا سادة
ذلك أن المسكين الشهيد كان خروفا من خرفان عيد الضحية ، وأن القاتل كان جزار الحارة وأن الناس شاركوه جرمه ، فأكلوا لحم الذبيح مشويا ومقليا ومطهيا وأكلت معهم ، ونسيت من طيب اللحم هذا المشهد
هذه هي سنة الحياة ، يموت المسكين لنستمتع نحن بأكلة طيبة . فكلوا انتم منه أيضا هنيئا واشربوا مريئا ، واشتغلوا بالاكل عن مطالبتي بالقصة وكل عام وأنتم بخير.
علي الطنطاوي عام 1946
|
|
|