خامسًا: خطورة زلة العالِم:
زلَّة العالِم يضلُّ بها عَالَم، ولقد حذَّر الصحابةُ الكِرام منها؛ فقال زِيَاد بن حُدَيْر: قال لي عمر: هل تعرف ما يهدم الإسلام؟ قال: قلتُ: لا، قال: يهدمه زلَّة العالِم، وجِدَال المنافق بالكتاب، وحُكم الأئمة المضلين"[11].
وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: "ويْلٌ للأتباع من عثرات العالِم"[12].
ولهذا يشَبِّهُون زلَّة العالِم بانْكِسار السفينة، فيغرق بانكسارها خلْقٌ كثيرٌ.
فنُلاحظ أن السلَف لَم يجعلوا مِن زلات العلماء مسائل خلافيَّة، يُخَرِّجون عليها فُرُوعًا فقهية، ويستدلون بمجرد ثبوتِها عن العالِم، وإنما جعلُوها فتنة يستعيذ المؤمن مِن شَرِّها، ويتوَرَّع عن قَبُولِها؛ ليسلم له دينه وعبادته لربِّه.
ولخطورة زلَّة العالِم فقد ذكَرها أهلُ العلم في مؤلَّفاتهم، فمنهم:
• الحافظ ابن عبدالبر: حيث أفرد فصلاً في كتابه "الجامع في بيان العلم وفضله".
• والحافظ ابن القيم: في كتابه "إعلام الموقعين".
• والإمام الشاطبي: في كتابه "الموافَقات"، وغيرهم كثير.
وعلى هذا يتأتَّى سؤالٌ:
ما بال أهلِ العلم يُحذِّرون من زلة العالِم مع أنها مبنيَّة على اجتهادٍ لا يكون صاحبُه آثمًا؟
ووجه التحذير هو: الآثار المترَتِّبة على زلة العالِم، حيث يترتَّب عليها آثارٌ خطيرة منها:
1- اتِّباع المقلِّدين لها، مع أنها في الأصل خارجة عن حُكْم الشرع.
2- وجود مَن يُنافح عنها؛ نظرًا لمكانة قائلِها؛ مما يجعل المنافِح يُحاول تأصيلها وحشْد الأدلة لها؛ حتى تلتبسَ على مَن يُطالعها.
3- قد يكثر أتباعها، فتنتقل المسألة عند البعض مِن حيِّز الشذوذ إلى مسألة مُعتبرة الخلاف، وهو أشد آثارها.
4- تخريج بعض الأتباع عليها مسائل أخرى، فتُبْنى مسائل على أصلٍ شاذٍّ.
سادسًا: المنهج تجاه القول الشاذ:
منهج أهل السنة والجماعة والراسخين في العلم تجاه القول الشاذ يتلخَّص فيما يلي:
أ - القول الشاذ للعالِم لا يجوز اتِّباعه ولا تقليده فيه، وإنما يُسأل لقائله المغفرة والعفو.
ب - على إخوانه من أهل العلم مُناصحته، وبيان القول الصحيح الموافق للدليل الشرعي؛ ليتوبَ القائل إن كان حيًّا من قوله الشاذ، وليترك العمل به.
وهذا كله داخل في النصيحة الواردة في حديث تميم الداري مرفوعًا: ((الدين النَّصيحة))، قلنا: لِمَنْ؟ قال: ((لله، ولكتابه، ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - ولأئمة المؤمنين وعامتهم))[13]، قال ابن رجب معلقًا على هذا الحديث: ومِمَّا يختص به العلماء ردّ الأهواء المضِلَّة بالكتاب والسنة على مُورِدِها، وبيان دلالتهما على ما يخالف الأهواء كلها، وكذلك رد الأقوال الضعيفة من زلاَّت العلماء، وبيان دلالة الكتاب والسنة على ردِّها"[14].
ج - الإعراض عن زلاَّت العلماء وسقطاتهم حتى تموت بِمَوْتهم، ومِن أفضل الخلْق مَن تموت مثالبُه بمَوْته.
ومن الإعراض عن الأقوال الشاذة:
عدم ذكرها ونشرها والاستدلال لها والمنافحة عنها، ولم يزلْ أهلُ العلم في كل عصر يردُّون شذوذات الأقوال، ولئن نقلوها في كُتُبِهم فمِن باب ما يسمَّى اليوم: الأمانة العلمية، في حصر جميع ما ورد في المسألة، وإن كان الأَوْلى إهمال القول الشاذ، وعدم ذكره ليموت مع الأيام.
ولأهل السُّنَّة طريقة محمودة في التعامُل مع الأقوال الشاذة، حسب ضررها على المجتمع المسلم، فهناك من الأقوال الشاذة ما يُكتفَى فيه بالنُّصح والتذكير بالله، وهناك ما يستدعي الرد والإبطال وتأصيل الحكم الشرعي، وهناك ما يستدعي المنْع مِنَ الفتوى بها، والمرْجِع في ذلك كلِّه مُراعاة طبيعة المسألة، ومقدار ضررها وحجْمها في الشريعة.
د - تحفظ للعالِم مكانته ومنزلته العلمية، ولا يكون قولُه الشاذ مدْعاةً للنَّيل مِنْ عِرْضه أو انتقاصه أو الاستهزاء به، والحطّ مِنْ قدْره.
قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله -: "نعوذ بالله سبحانه مما يُفضي إلى الوقيعة في أعراض الأئمة، أو انتقاص أحد منهم، أو عدم المعرفة بمقاديرهم وفضْلهم، أو محادتهم وترْك محبَّتهم ومُوالاتهم، ونرجو من الله سبحانه أن نكونَ ممن يحبهم ويواليهم، ويعرف مِن حقوقهم وفضْلِهم ما لا يعرفه أكثرُ الأتْباع، وأن يكونَ نصيبُنا من ذلك أوْفر نصيب وأعظم حظ، ولا حول ولا قوة إلا بالله"[15].
هـ - لا تلازُم عند أهْلِ السنة بين الخطأ والإثم، فقد يكون القول خطأً يُنْكَر على صاحبه، ولا يكون آثمًا، بل مأجورًا على اجتهاده، مغفورًا خطؤُه في حسناته.
قال ابن تيميَّة - رحمه الله -: "فأمَّا الصِّدِّيقون والشُّهداء والصالحون فليسوا معصومين، وهذا في الذنوب المحققة، وأمَّا ما اجتهدوا فيه فتارة يصيبون، وتارة يخطئُون، فإذا اجتهدوا وأصابوا فلهم أجران، وإذا اجتهدوا وأخطؤوا فلهم أجر على اجتهادهم، وخطؤُهم مغفور لهم، وأهل الضلال يجعلون الخطأ والإثم متلازِمَيْن، فتارة يغلون فيهم يقولون: إنهم معصومون، وتارة يجفون عنهم ويقولون: إنهم باغون بالخطأ، وأهل العلم والإيمان لا يُعصمون ولا يُؤَثَّمون"[16].
و - لا يجوز اتِّهامه، ولو وافق أقوال المبتدعة، فليس كل قول وافَق أقوال المبتدعة أو أهل الأهواء - كالعلمانيين - يكون صاحبه مبتدِعًا أو علمانيًّا.
قال الإمام الذهبي - رحمه الله -: "ولو أنَّا كلَّما أخطأ إمامٌ في اجتهادِه في آحاد المسائل خطأً مغفورًا له، قُمنا عليه وبدَّعناه، وهجرناه، لما سلم معنا ابن نصير، ولا ابن مندهْ، ولا مَن هو أكبر منهما، والله هو هادي الخلْق إلى الحق، هو أرحم الراحمين، فنعوذ بالله من الهوى والفظاظة"[17].
ز - أهل السنة هم أعدل الناس مع المخالفين، فما بالك بإخوانهم وعلمائهم؟! فذلك مِن باب أوْلَى، ومِن العدل ألا يؤثر شذوذه في هذا القول على اتِّباعه في القول الموافِق للحق، والعدل في هذا الباب عزيز إلا على الأتقياء.
سابعًا: حكم تتبُّع زلاَّت العلماء بالتقْليد:
أجْمع أهلُ العلم على أنه لا يجوز تتبُّع زلاَّت العلماء وتقليدها والعمل بها؛ احتجاجًا بأنها أقوال لعلماء الأمة، واعتمادًا على منْزلة قائليها، وتواتُر نكيرهم على مَن تَتَبَّع زلاَّت وشذوذات العلماء:
فقال سليمان التيمي: إنْ أخذْتَ برُخصة كل عالِم اجتمع فيك الشرّ كله.
وقال الإمام أحمد: لو أنَّ رجلاً عمل بقول أهل الكوفة في النبيذ، وأهل المدِينة في السماع، وأهل مكة في المتْعة - كان فاسقًا.
وقال ابن المبارك: ولقد أخبَرَني المعتمر بن سليمان قال: "رآني أبي وأنا أنشد الشعر، فقال: يا بُنَي لا تنشد الشعر، فقلتُ: يا أبتِ، كان الحسَن يُنشد الشعر، وكان ابن سيرين ينشد، فقال: أي بني، إنْ أخذتَ بِشَرِّ ما في الحسَن، وبِشَرِّ ما في ابن سيرين، اجتمع فيك الشرُّ كله".
وقال الذهبي: "مَن يَتَتَبَّع رُخَص المذاهِب، وزلاَّت المجتهدين، فقد رقَّ دِينه"[18].
فنُلاحظ أنَّ أهل العلم لَم يجعلوا شذوذات العلماء مسوغة للخلاف وجائز الاتِّباع، وإنما جعلوها من شَرِّ ما في ذلك العالِم مع حفْظهم لِحُقُوقه الأخرى.
ثامنًا: الشذوذ أمارة ضعف القول:
أهل العلم يجعلون الشذوذ بذاته علامةً على الضَّعْف، وأمارةً على التردُّد وعدم قبول القول، ومَن درس أقوالهم عرَف منْهجهم، فكثيرٌ من العلماء مَن يترَدَّد في مخالفة الأكثر، مع أن القول الآخر قال به طائفةٌ من أهل العلم في كلِّ عصر وزمن، فكيف إذا كان القول شاذًّا، يمُرُّ الجيل وتَتَتَابَع الأزمان، ويبقى القائلون به أفرادًا؟!
يتبعـ ,,