بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الكلم الطيب من الوابل الصيب
إن الذي يعرف أثر الكلمة وخطورتها، يحتاط لها وينزلها منزلتها التي تليق بها، فالله تعالى خلق الكون بكلمة، ورفع السموات بكلمة، وبالكلمة كان آدام، وبالكلمة نحيا وبالكلمة ندين، وبالكلمة يُرفع الميزان بين الناس يوم القيامة.
وبكلمة يدخل العبد الجنة، وبكلمة يدخل العبد النار؛ قال صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ»([1])
وقال صلى الله عليه وسلم : «مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ أَضْمَنْ لَهُ الْجَنَّةَ»([2])
وقد غضب الله على بني إسرائيل بسبب كلمة حين قال: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَـذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة58] وكلمة (حطة) أي: حُط عنا خطايانا، فبدلوا القول محرفين ومغيرين : {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ} [البقرة59] قال العلماء: إن بني إسرائيل قالوا: (حنطة) فزادوا حرفًا في الكلام فلقوا من البلاء ما لقوا!.
والكلام يُعد شهوة من الشهوات كالطعام والجماع، لذا كان الصوم عن الكلام من العبادات التي يُتقرب بها إلى الله تعالى في الأمم السابقة، قال تعالى عن مريم: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا}[مريم26] وقد نُسخت هذه العبادة من شرعنا، وبقيت من الآداب السامية والأخلاق الفاضلة في الإسلام. فحين يُعجب الإنسان بنفسه وبمنطقه بين الناس يكون السكوت هاهنا واجب للمحافظة على القلب من الرياء والفساد، قال عبيد الله بن أبي جعفر: «إذا كان المرء يحدث في مجلس، فأعجبه الحديث، فليمسك. وإذا كان ساكتا، فأعجبه السكوت، فليتحدث»([3])
والسكوت في هذه المواقف صعب لا يستطيعه كثير من الناس بل الذي يقدر عليه من يعرف أثر الكلمة وخطورتها، ويعرف أنها قد تكون فيها هلاكه، قال خلف بن إسماعيل: قلت لسفيان الثوري: «إذا أخذت في الحديث نشطت وأنكرتُكَ، وإذا كُنْتَ في غير الحديث كأنك ميت! فقال: أما علمت أن الكلام فتنة»([4]) وقال عبد الله بن أبي زكريا: «ما عالجت من العبادة شيئًا أشد من السكوت»([5])
لذا؛ كانت قلة الكلام من وصايا العلماء والحكماء لأتباعهم فعن صالح بن أبي الأخضر قال: قلت لأيوب السختياني: أوصني، قال: «أقل الكلام»([6]) وكان الأوزاعي يقول لأتباعه وتلاميذه: «من عرف أن منطقه من عمله، قل كلامه»([7]) وكان الفضيل بن عياض يقول: «لا حج ولا جهاد أشد من حبس اللسان، وليس أحد أشد غمًا ممن سجن لسانه»([8]) وقال بشر الحافي: قال مرة رجل للمعافي: «ما أشد البرد اليوم، فالتفت إليه المعافى، وقال: أستدفأت الآن؟ لو سكت، لكان خيرًا لك»([9])
وقول مثل هذا جائز، لكنهم كانوا يكرهون فضول الكلام وكثرته، ويحذرون منه لأنه من الخطإ الكبير أن يطلق الإنسان لسانه فيما لا يعنيه، وأكبر منه أن يطلقه فيما لا يحل له.
قال ابن القيم لأن فضول الكلام يفتح للعبد أبواب الشر كلها وهو مدخل للشيطان فإمساك فضول الكلام يسد عنه تلك الأبواب، وقد قال صلى الله عليه وسلم : «وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ»([10])
وعَنْ أَنَسٍ قَالَ تُوُفِّيَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ يَعْنِي رَجُلًا أَبْشِرْ بِالْجَنَّةِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : «أَوَلَا تَدْرِي فَلَعَلَّهُ تَكَلَّمَ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ أَوْ بَخِلَ بِمَا لَا يَنْقُصُهُ»([11])
قال الذهبي: «واختلف العلماء في الكلام المباح، هل يكتبه الملكان، أم لا يكتبان إلا المستحب الذي فيه أجر، والمذموم الذي فيه تبعة؟ والصحيح كتابة الجميع لعموم النص في قوله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق18] ثم ليس إلى الملكين اطلاع على النيات والإخلاص، بل يكتبان النطق، وأما السرائر الباعثة للنطق، فالله يتولاها»([12])
وقد تكون الكلمة سببًا في هلاك إنسان أو إزهاق روحه، فعن خرزاذ العابد قال: «حدث أبو معاوية الرشيد بحديث: "احتج آدم وموسى" فقال رجل شريف: فأين لقيه؟ فغضب الرشيد، وقال: النطع والسيف، زنديق يطعن في الحديث، فما زال أبو معاوية يسكنه ويقول: بادرة منه يا أمير المؤمنين، حتى سكن»([13])
وهذا المتنبي هم ليفر ممن أرادوا قتله فقال له مولًى له: أين تذهب وأنت القائل:
فالخيل والليل والبيداء تعرفني * والطعن والضرب والقرطاس والقلم
فقال له: ويحك قتلتني ثم كَرَّ راجعًا فطعنه زعيم القوم برمح في عنقه فقتله، ثم اجتمعوا عليه فطعنوه بالرماح حتى قتلوه([14]).