الموضوع: حلمُ رجل مضحك
عرض مشاركة واحدة
قديم 01-09-2010, 02:41 AM   #11
الساكن
عضو مميز جدا وفـعال


الصورة الرمزية الساكن
الساكن غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 27629
 تاريخ التسجيل :  04 2009
 أخر زيارة : 03-03-2025 (04:29 AM)
 المشاركات : 1,599 [ + ]
 التقييم :  10
لوني المفضل : Cadetblue


وكنتُ من قبلُ أعلم أن في أعماق الفضاء توجدُ نجومٌ لا تصلُ إلينا أنوارها إلا بعدَآلافِ وملايين السنين، لعلّنا قد قطعنا تلك الفضاءات، كنتُ أنتظرُ شيئاً ما في وحدةقلبي العميقةِ والمخيفة، وفجأةً وبينما أنا كذلك إذا بعاطفةٍ معروفةٍ تهزّ كيانيوتوقظ ماضيّ بقوةٍ: لقد رأيتُ فجأةً شمسنا! كنت أعلمُ أنها لا يمكن أن تكون (شمسنا)، شمسنا التي ولدت أرضنا، وأعلم أننا نبعدُ عن شمسنا مسافاتٍ لا نهائية،لكنني كنت أحسُّ بكل جوارحي أنها تشبُهُ شمسنا تمام الشبه، وهي نسخة عنها، ونظيرلها. إحساسٌ لذيذٌ حلوٌ غَمَر روحي: وقوّة الضياء الخلاقة التي ولدتني، ترجّعت فيقلبي وبعثتهُ من جديد، فأحسستُ بالحياة تعودُ إلى عروقي، لأوّل مَرّةٍ بعدَ أنقُبِرت.‏

ـ ولكن إذا كانت هذهِ هي الشمس، إذا كانت شمساً كشمسِنا تماماً ـهتفتُ به، فأين هي الأرض إذاً؟‏

فأشار مُرافقي إلى نجمةٍ تُشّعُ في الظلمةِبضياءٍ زُمردّي اللون، وكنا في الآن نفسه نتجهُ نحوها.‏

ـ هل من الممكن أنيحدثَ مثلُ هذا التكرارِ في الكون؟ وهل هو قانون الطبيعة؟ وإن كانت تلك هي الأرضُ،فهل هي أرضٌ كأرضنا تماماً، مثلها تعيسة، وفقيرة، ومثلها غالية ومحبوبة أبد الدهر،وقادرة على استدرار حُبِ أبنائها وحتى أكثرهم جحوداً؟ ـ قلت ذلك هاتفاً وأنا أرتعشُجراءَ حُبٍ طاغٍ وشديد تجاه تلك الأرض التي ولدتُ عليها وهجرتُها، وكانت طيف تلكالطفلة البائسة التي أهنتُها يخفقُ أمام عيني.‏

ـ سترى كل شيء ـ أجابَمُرافقي وكانت كلماتُهُ تشي بحزنٍ ما.‏

ولكننا كنا نقتربُ بسرعةٍ منالكوكب، فيكبُرُ حجمُهُ في عينيّ، ثمّ مَيّزتُ المحيط وحدود أوروّبا، فاشتعلت غيرةٌغريبةٌ ومقدّسةٌ في قلبي: "كيف يمكن أن يحدث مثل هذا التكرار؟ ولأية غاية؟ أناأحبُ... أنا أستطيع أن أحب تلك الأرض التي تركتُها ورائي، تلك الأرض التي تناثَرَدَمي فوقها، عندما أطلقتُ الرصاص في قلبي جاحِداً كل شيء، ومنهياً حياتي، ولكننيلمْ أتوقّفْ عن حبّها أبداً، وحتى في تلك الليلة التي فارقتها فيها فقد شعرتُبحبّها أشدُ تعذيباً لي من أي وقتٍ مضى، هل ثمّة عذاب على هذه الأرض الجديدة؟ علىأرضنا لا نستطيع أن نحب إلا مع الألم والعذاب، وفقط من خلالهما، وإلا فإننا لانستطيع أن نحب، بل لا نعرفُ حُبّاً آخر، لهذا أنا أطلبُ العذابَ كي أتمكّن أن أحب،كم أتعطّشُ في هذهِ اللحظة أن أقبلَ الأرضَ وأغسلها بدموعي، تلكَ الأرض التي هجرتهاوالتي لا أريدُ، بل لا أستطيع العيش إلاَّ عليها فقط!".‏

لكن مُرافقي كانقد تركني وحيداً. وأصبحت فجأةً ـ وكما لو أنني لم أنتبه لذلك ـ أقفُ على تلك الأرضالأخرى غارقاً في نور شمسٍ ساطع، في يومٍ نعيميٍ رائع. لقد وقفت على ما أظنُ علىأرضِ جزيرةٍ من تلكَ الجزر التي تشكّل أرخبيل(2) اليونان، أو على شاطئ أرضٍ تشرِفُعلى ذاك الأرخبيل. كل شيء كان يشبُهُ ما ألفناهُ على أرضنا تماماً.‏

وتراءىلي أن حبوراً وعيداً يشعُّ في كل مكان حتى يبلغُ الأمرُ مرحلةَ النشوة والروعة.‏

والبحرُ الزمرديُ اللطيف يُداعبُ الشاطئ بحبٍ واضحٍ عن وعيٍ تقريباً.‏

وأشجارٌ باسقةٌ عاليةٌ رائعة انتصبت في المكان غزيرة الأوراق وكثيفتهاوبَدَتْ لي وكأنها تحييني بمودّة بحفيفها الصامت الرقيق، وتخاطبني بكلمات الحب. واشتعَلَ المرجُ أزهاراً عَطِرةً مضيئة، أما العصافيرُ فكانت تطيرُ نحوي أسراباًمطمئنةً آمنة وتحطُ على كتفيَّ ويديَ مصفّقةً بأجنحتها الصغيرة مغنيةً لي. وأخيراًرأيتُ وعَرَفت بشَرَ تلك الأرض. لقد جاءوا إلي بأنفسهم، أحاطوا بي، وقبّلوني.‏

أبناءُ الشمس، أبناءُ شمسهم ـ كم كانوا رائعين! ما رأيتُ في حياتي جمالاًكجمالهم على أرضنا، وهل بالإمكانِ أن تجدَ صورةً ولو باهتةً من جمال هؤلاء الأطفالفي أطفالِنا حديثي الولادة! عيون هؤلاء البشر السعداء كانت تشعُّ ضياءً ونوراً.‏

ووجوههم تشرقُ حكمةً ووعيّاً، يبلغُ أقصى حدود الهدوء والرزانة، في أصواتهموكلماتهم كانت ترنُّ نغمةُ سعادةٍ طِفْليّة. وقد فهمتُ كل شيءٍ من النظرة الأولىإلى وجوههِم. إنّها الأرضُ؛ قبل أن تلطّخها الخطيئة، وعليها يعيشُ البشرُ دونخطيئةٍ، يعيشونَ في هذهِ الجنّة؛ التي تناقَلَ البَشَر أن أجدادنا عاشوا فيها قبلأن يرتكبوا آثامَهم، مع فرقٍ واحدٍ، هو أن هذهِ الأرض هُنا، إنّما هي جنّة في كلجنباتِها وجهاتِها. كان هؤلاء الناس يضحكونَ من حولي بجذلٍ ومَرَحٍ، يقتربونَ منيويمازحونني، ثُمَّ مضوا بي إلى منازلهم وكُلّ منهم يحاولُ أن يرفّه عني ويسلّيني،وما سألوني عن أي شيء، وكأنهم كانوا يعرفونَ الأشياء جميعها؛ هذا ما بدا لي. لقدكان همّهم أن يطردوا تعابير العذاب عن ملامح وجهي.‏




 

رد مع اقتباس