ثانيا/ العمل للدين وظيفة العمر.
العمل للدين ليس مؤقت بوقت ولا محددا بزمان ولا مكان وإنما هو وظيفة العمر كلها.
فإذا كان الانتماء للدين يستلزم العمل له، فالعمل للدين وظيفة العمر.
واستشرف هذا المعنى من سير أنبياء الله ورسوله والتابعين لهم بإحسان:
هذا نوح عليه السلام يصف برنامجه في الدعوة إلى الله يقول:
( إني دعوة قومي ليلا ونهارا) ثم يقول:
(ثم إني دعوتهم جهارا، ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا).
ماذا بقي من حياة نبي الله نوح؟
الليل والنهار، العلن والإسرار، كل ذلك سخر للدعوة، كل ذلك سخر للرسالة آلف سنة إلا خمسين عاما. الحياة كلها دعوة، ليل ونهار، علن وإسرار.
ثم أرحل مع نبي من أنبياء الله ورسله يوسف عليه السلام:
يوسف الذي القي به في غيابة الجب، ثم في غيابة السجن.
أدخل السجن يوسف في قيوده.
يعاني في السجن لوعة الغربة، وألم البعاد، وقهر الظلم، ومضاضة ظُلم ذوي القربى.
يعاني كل هذه الآلام ويكابدها في ظلمات السجن وثقل القيد، ولكن مع هذا كله، مع هذه المعانات كلها لا ينسى أبدا دعوته وقضيته ورسالته، فإذا به يحول السجن إلى مدرسة للتوحيد، مدرسة للدعوة.
يتبين لنا فيها براعة الداعية وحسن تأتيه فإذا به يستقبل سؤال صاحبيه في السجن حينما يسألانه:
( رأيتني أعصر خمرا ).
( رأيتني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه).
( نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين ). فيتأتى أحسن التأتي في بيان دعوته:
أولاً يكرس حسن ظنهما به فيقول:
( لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما).
ثم يستغل تشوقهما للجواب على السؤال الذي طرحاه، فلا يجيب على السؤال مباشرة ولكن يطرح القضية الضخمة التي تعيش في وجدانه وهي رسالة الله وعقيدة التوحيد فيقول:
( يا صاحبي السجن ءأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار)؟
ثم يندد بعقيدتهما وعبادتهما فيقول:
(ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وءاباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان).
أسماء سميتموها ليس لها حقائق، حتى إذا كرس عقيدته وبين أنه بريء هو وأبوه وجده مما هم عليه وأنه أتبع الرسالة الخالصة الموحدة لله.
ثم يجيب بعد ذلك على السؤال:
( أما أحدكما فيسقي ربه خمرا،وأما الأخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه، قضي الأمر الذي فيه تستفتيان).
قضي بعد ماذا ؟
بعد أن ألقى عليهم محاضرة مملوءة بالأدلة والبراهين والتثبيت في التوحيد.
سبحان الله! نبي في هذه المعاناة، ألم السجن، ألم الغربة، قهر الظلم، لوعة البعاد ومع ذلك تبقى قضية نبوته ورسالته وعقيدته والدعوة التي يحملها حية لا تخبو ولا تلين.
بل إن أنبياء الله ورسله وكذا السائرون على أثرهم لا ينسون دعوتهم في أحرج اللحظات وأشد الساعات وأشد الكربات كربا، وآلمها ألما، وأمضّها وأوحشها.
إنها أشد ساعة تمر بالإنسان منذ ولادته إلى مغادرته إنها ساعة الموت.
وهل ساعة أشد منها؟ وهل ساعة أعظم هولا ؟ وأكرب كربا ؟ وآلم ألما من هذه الساعة؟
ستفضي بك الساعةُ في بعض مرها……..إلى ساعة لا ساعة لك بعدها
هذه الساعة الموحشة المؤلمة الشديدة لا تنسي أنبياء الله ورسله دعوتهم وقضيتهم ورسالتهم لأن الدعوة وظيفة العمر كله، حتى في آخر لحظات العمر.
تبقى الدعوة والرسالة والعمل للدين حية لا تموت وهم يموتون.
هذا نبي الله يعقوب عليه السلام يصف الله لنا مشهد وفاته.
حاله وهو يموت كيف مات من كان عنده؟ ماذا قال؟ ماذا أنفذ وهو يودع الدنيا:
( أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت) وبنوه حولَه فماذا فعل؟ وماذا قال ؟
( إذ قال لبنيه ) ماذا قال لهم؟
الأموالُ كيف تجمعونها ؟
القصورُ كيف تبنونها ؟
الثروات كيف تكدسونها أم التركة كيف توزعونها ؟
أم الزروع كيف تزرعونها ؟
كلا ليس شيء من ذلك ولكن هم الدين وقضية التوحيد:
( ما تعبدون من بعدي ).
هذا الهم الذي بقي يقضا في قلبه وهو يودع الدنيا، ( ما تعبدون من بعدي ).
وهو الذي رباهم على التوحيد مذ منذ نعومةِ أظفارِهم، وعرف توحيدهم وصدقهم وإخلاصهم.
ولكن الهمُ اضخم في القلب ( ما تعبدون من بعدي ) ؟.
ويجيء الجواب الذي يقر عينه:
( نعبدُ إلهك والاه آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون ).
ثم انظر إلى حالِ نبينا وحبيبنا وإمامنا وقدوتنا (صلى الله عليه وسلم) :
الذي قضى ثلاثاً وعشرين سنةً في جهدٍ وجهاد وصبرٍ ومصابرةٍ.
بعد هذه المسيرةِ الحافلةِ في بلاغ رسالات الله، وبعد أن اعذر إلى الأمة بأنه قد بلغها دينها وأدا إليها الأمانة التي أتمن عليها، تهي للحاق بالرفيق الأعلى والمحل الأسنى.
فإذا به في أخرِ عُمرِه يصاب بالحمى التي تستعر في بدنه خمسة أيام حتى إن حرارة بدنه يحس بها من يضع يده على الأغطية وهو متغطي بها (صلى الله عليه وسلم)، ويقول ابن مسعود :
( يا رسول الله إنك لتوعك كما يوعك رجلان منا، قال نعم ذلك أن لي أجر أثنين).
وحتى كان الماء يحمل إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بالقرب يصب على بدنه ليطفئ استعار الحمى في بدنه.
بدنُ استعرت فيه الحمى وأنهكَه المرض، وانهزمت فيه العافية.
ولكن هم الدينِ، وهم الدعوة وهم الرسالةِ والعمل لا ينهزم في البدن الذي انهزمت فيه العافية.
ولا يخبو في البدن الذي أنهكه المرض، فإذا به صلوات الله وسلامه وبركاته عليه يذكرُ هم أمته ورسالتِه في أخرِ يومٍ يعيشُه على الدنيا.
إذا به صلوات الله وسلامه عليه يخرجَ إلى الأمةِ يومَ الاثنين، اليومَ الذي مات في ضحوته.
إن شئت فقل في أخرِ ساعاتِ حياته، يخرج يتفقدُ أمتَهُ!
أين تفقدها في الأسواق؟ كلا
تفقدها وهي تصلي لله في أخرِ فرضٍ تصليه أمةُ محمد (صلى الله عليه وسلم) ونبيُها حيُ على الأرض.
يتحاملُ (صلى الله عليه وسلم) على الجسدِ الواهن الذي انهزمت فيها العافية وأنهكه المرض.
يتحامل عليه لينظر أمته وهي تصلي نظرةَ وداعٍ يتفقد فيها دينها وصلاتها واعظم أركان الدين بعد التوحيد.
خرج (صلى الله عليه وسلم) على المسلمين وهم يصلون خلف ذلك الرجلِ الطيبِ المبارك الخاشع أبي بكرٍ الصديق وهو يقف في موقف الرسولِ (صلى الله عليه وسلم) يقطع القرآن ببكائه.
والصحابةُ يخيمُ عليهم جو من الحزنُ والوجوم لغيابِ رسولِ (صلى الله عليه وسلم) خمسة أيام عن محرابه الذي طالما وقف فيه يقطع آيات القرآن.
فما فجعَهم وهم وقوف إلا وسترُ حجرةِ رسولِ الله (صلى الله عليه وسلم) يرفع و إذا بالواقف محمدُ (صلى الله عليه وسلم) ، الذي غاب عنهم خمسةَ أيام تحت وطئة المرض، إذا به واقفُ يتحاملُ عل جسدِ منهك بالمرض.
ينظر إليهم فماذا رأى، رأى أصحابه وقوفاً كما علمهَم، خشوعاً كما أدبَهم، مطرقين خشوعا لأدب القرآن، وموقف الصلاة، فرأى (صلى الله عليه وسلم)، المنظر الذي ابتهج به قلبُه وقرت عينُه، واطمأنَ إلى أن رسالَته في أيدٍ أمينةٍِ و أن أمتَه واقفةُ على الصراطِ الذي رسَمهُ لها.
فإذا بالوجه الشاحبِ من المرض يطفحُ عليه البشر والسرور، فيتهللُ بإشراقةِ ابتسامةٍ وضيئةٍ ما رأى الصحابةُ منظراً كان أعجبَ إليهم منها، حتى قال أنسُ ابن مالكٍ رضي الله عنه:
(ما رأينا منظراً كان أعجبَ إلينا من وجهِ رسولِ الله (صلى الله عليه وسلم)، حينَ نظر إلينا يضحك كأن وجهَهُ ورقةُ مُصحف).
(صلى الله عليه وسلم) إنه الهمُ للدين والتفاعلُ مع الدين يطفحُ فرحاً وسروراً على وجهٍ أنهكه المرضُ وشاحب بالألم.
وكاد الصحابة أن يفتتنوا بهذا المنظر، فإذا بالصفوف تنشق لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) ليتقدم إلى محرابه الذي طالما وقف فيه، فإذا به يشير إليهم أن أتموا صلاتكم.
ويرخي ستر حجرته فكانت أخرَُ رأية رأها الصحابةُ لرسولِ الله (صلى الله عليه وسلم).
بل إنه (صلى الله عليه وسلم) إذ كنا نقول أنه حملَ الأمةِ في أخرِ ساعاتِ حياته.
فإننا نقولُ الآن إنه حملُ هم الأمة في أخرِ لحظاتِ حياته.
إذا به (صلى الله عليه وسلم) ينفقُ أخرَ الأنفاسِ وأخرَ اللحظاتِ وأخر الثواني نصحا للأمة ونداء للأمة لا ينسى هم أمته وقضيته ورسالته.
نزل به الموت فاشتد به الكرب حتى قالت عائشة رضي الله عنها:
( ما تمنيت يسر الموت لأحد بعد ما رأيت من حال رسول الله (صلى الله عليه وسلم)) لشدة وقع الموت عليه.
كان يدخل يده في الإناء الذي فيه الموت ثم يمسح وجهه ويقول:
( لا إله إلا الله إن للموت لسكرات، اللهم أعني على هذه السكرات ).
لكنَ هذه السكراتِ لم تلهِ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن دعوته ولا عن عقيدته ولا رسالته ولا أمته فإذا به في هذه السكرات ينفذ النداء للأمةِ نداءً يخترقُ حُجبَ التاريخِ وترويه الدنيا في أخر لحظاتِ عمره، ينادينا نداءً شق حُجبَ الزمن حتى أسمعنا:
( الله اللهَ الصلاة الصلاةَ وما ملكت أيمانُكم ) حتى حشرجَ بها صدرُه وغرر بها حلقُه واحتبسَت بها نفسه. إنه هم العمل لدين في أقسى اللحظات وآخر أنفاس الحياة.
هذا شأن أنبياء الله ورسله وهم المخاطبون أصالة بهذا الأمر، فقهه وثقفه منهم الصحابة والتابعون لهم بإحسان وفتش حياة أي صحابي لا تجد يوما منها مهدرا ليس فيها عمل للدين.