الموضوع: شيء من حياتي 3
عرض مشاركة واحدة
قديم 02-11-2010, 08:33 AM   #1
اينار
المركز الثالث (عقد من ضياء)


الصورة الرمزية اينار
اينار غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 18469
 تاريخ التسجيل :  09 2006
 أخر زيارة : 04-04-2024 (04:42 AM)
 المشاركات : 2,518 [ + ]
 التقييم :  71
 الدولهـ
Yemen
 الجنس ~
Female
لوني المفضل : Hotpink
شيء من حياتي 3



شيء من حياتي 3




رائحة الموت تقترب مني كلما سمعت قراءة الشيخ الحصري ، فأتذكر شعوري بحركة الملائكة القادمين لاستلام الأمانة ورفع الروح لبارئها ، أتذكر صرخة أمي وبكاء النسااء ، و أتذكر حيرتي بين البكاء والتماسك _


يوم وفاة والدي ( رحمه الله وجعل مثواه الجنة ) الذي كان في 19 – 1 - 1999 ميلادية والذي وافق ثاني أيام عيد الفطر المبارك ، ليصبح العيد الداكن في حياتي ، الذي غلفته الثياب السوداء والهدوء المضني والملامح المستسلمة لقدر الله .


لم أشعر بالهيبة والوقار مثل ماشعرت به ذلك اليوم ، حين هبطت ملائكة الموت إلى بيتنا ، حيث رأتنا وشعرنا بها ، لتقبض روح أبي ، وأنا وأخوتي جميعا نقف ننظر لأمي وهي تسند ابي بذراع وتحاول أن تسقيه العسل بالذراع الأخرى . أتذكر جيدا أن اللحظة التي إبتلع أبي فيها العسل ، ثقل وزنه ومال في حضن أمي !


أصبح جسد بلا روح ، ولكنّي لم أدرك ذلك في تلك اللحظة ، فإن أمي لم تبكي وأخي الأكبر لم يصرخ ، إذن فكل شيء على مايرام !


استقامت أمي _ وبدأت تملي علينا بعض التعليمات ، مثل إخفاء كل ماهو ثمين وإقفال الخزانات بالمفاتيح وارتداء الملابس السوداء ، كانت تعلم أن أبي توفي وأن فوج هائل من البشر سيحتل بيتنا ، ولكنها لم تستطيع إخبارنا بذلك بشكل مباشر ، فقد كانت هي نفسها تأمل أن ما حدث له ماهو إلا مجرد غيبوبة !


ثم أرسلت أخي لاستدعاء جارنا ، علّه يزيل عنّا غموض هذا الموقف . وعندما وصل جارنا ، حمل أبي ، أو بالأحرى جثة أبي ، ونقلها لحجرة الإستقبال (الخاصة بالرجال) ووجهه للقبلة ، ولم يخبرنا شيئا ، ذهب ليتركنا مع أبي قليلا حتى يعود ومعه الطبيب . فقد علم جارنا أن أبي قد رحل ، ولم يذهب لإحضار الطبيب إلا لتأكيد حالة الوفاة فقط لا غير !


سألت أخي " هوّ في حاجة حصلت لبابا ياوليد ؟؟ " ، يحوّل نظراته عني ويقول " لسه مش عارفين ، إنتوا بس صلّوله وادعوله " ، توضأت وكذلك إخوتي وصلينا ، ورفعنا أيدينا للدعاء والرجاء لله سبحانه وتعالى بأن يشفي أبي !!


كم كنت أعشق ذلك الرجل ، حتى أن إدراكي كان يكابر بشدة بأن لحظة وفاته لم تحين ولن تحين أبدا ، فكيف يرحل ذلك الرجل العظيم ويتركنا ؟!


في لحظات الإنتظار الهادئة ظاهريا والهائجة القلقة في دواخلنا ، أصرّت أمي بأن نتناول الطعام ، حيث أننا لم نتناول شيء على الإطلاق منذ الصباح ، وكانت تخشى أن يحدث شيء ما ولا نستطيع أن تناول شيء بعدها . لم يكن لأحد منا الرغبة في تناول أي شيء على الإطلاق ، ولكن أخي الأكبر (الذي كان يبلغ من العمر 17 سنة حينها ) وأختي الكبيرة ( التي تصغره بعامين ) شجعونا على التجمع حول بعض الطعام وتناوله ، وأثناء ذلك كان أخي يحثنا على الإنبساط و يقول لنا ابتسموا ابتسموا فإن الابتسامة في مثل هذه الظروف لها أجر كبير ( لا أعلم حقيقتا صحة تلك المعلومة ، ولكن أعلم جيدا أن أخي كان يحاول بها الترويح عن انفسنا لنستطيع تناول الطعام ) وبالفعل ، بدأنا نبتسم لبعضا البعض ونجبر أنفسنا على تناول الطعام ، وكلٌ منا يخفي مايخفي في داخله من القلق الشديد عن الآخر .


بعد ساعة أو سعاعتين بالأكثر ، بدأ بيتنا يمتلئ بالمعارف والأهل والجيران (نساء ورجال) بشكل مفزع ، على الرغم من أن خبر الوفاة لا يزال غير مؤكد بالنسبة لنا . وفي لحظة أتانا الخبر بأن الطبيب قد وصل _وبما أننا كنساء لا نستطيع أن نذهب إلى القسم الممتليء بالرجال في البيت ، أرسلتُ أنا وأختي أخي الصغير إلى هناك خلسة ليأتي لنا بالأخبار ، وعاد وهو يقول ببراءة شديدة لا أنساها " مغطيين وجه بابا بقماشة " صعقتُ أنا وأختي بشدة ، ولم تمضي إلا ثوان حتى سمعنا صرخة واحدة مدوية أتت من القسم التي تجمع فيه النساء ، هرعنا إلى هناك _ وكانت لحظة انهيار أمي !


أصرخ وأنا أمسك بأمي " ماما ماما " وأشعر بأيد تشد ذراعي وتبعدني عنها ، أرى حولي فأجد الكثير من النساء يبكين ، أرى أختي الكبيرة تبكي بجانب أمي على الأرض ، أبكي نعم أبكي وماذا عساي أن أفعل غير ذلك ، أشعر بمن يربت على ظهري ويحضنني ، لا أعلم من وكيف ولماذا ، ولكن كنت ميقنة بأنها النهاية _


عندما أتذكر يوم وفاة أبي ، لابد من مرور إحدى أكثر اللحظات ألما في مخيلتي ، وأعود للوراء وأعيش اللحظة من جديد . لحظة وداع جثة أبي ؛ بعد أن غسل ولف بالكفن ، استدعونا لتوديع أبي قبل أن يأخذوه ليدفن في قريتنا . كان أبي جثة هامدة ممددة على خشبة لا حول له ولا قوة ، مغمضة عينيه وكأنه نائم كما اعتاد أن يفعل كل يوم . عندما رأته أمي بزيّه الرسمي للإنتقال إلى العالم الآخر ، اندفعت إليه والدموع تنهمر بلا إنقطاع ، وألقت بنفسها على الأرض بجانبه وبدأت تهلل وتكبر وتسبح في أذنيه ، وكأنه مولود دخل لتوّه بوابة الحياة ، والتي هي في الواقع بوابة لحياة أخرى . كان ذلك المشهد من أكثر المشاهد في حياتي تأثيرا في نفسي وفي نفس كل من شهده ، فلم يتوقع أحد منا ذلك الإندفاع من أمي ، وتلك القوة التي ألهمتها باستبدال الصراخ والعويل بالذكر والتسبيح حتى انهار كل من حولها بالبكاء رجال ونساء . ترك هذا المشهد في مخيلتي لوحة في قمة الجمال وقمة الحزن ، أعلم أنها ستبقى للأبد .


v
v
v

يتبع


المصدر: نفساني



 

رد مع اقتباس