.
.
بعد منتصف الليل ، أسدل هدوء غريب ملاءته على بيتنا ، هدوء يحمل في طياته جلبة مخيفة ومهيبة مختلطة برائحة البخور الخاصة بالأموات ، ذهبت أنا وأختي إلى ذلك القسم الذي تم غسيل أبي فيه في بيتنا لنطفيء الأضواء ، شعرنا حينها بأن المكان اصبح مختلف ، حيث بدأت تخالجنا مشاعر تؤكد أن المكان هنا ممتليء بشيء ما ولكننا لا نعلم كنهه ، وكأن روح أبي مازالت هناك ، أو هي الملائكة ، أو أنها أوهام ، لا أعلم ، ولكن أعلم جيدا أن القشعريرة سارت في أجسادنا حتى أنجزنا المهمة بأسرع مايمكن من شدة الخوف وتركنا المكان وصوت الشيخ الحصري يملأ أركانه .
في نهاية ذلك اليوم ، جمعتنا أمي في حجرة واحدة لننام معا ، حتى نشعر بالدفيء بعد أن أهلك سقيع الخوف والحزن أرواحنا . وقبل إطفاء الضوء ، أوصتنا أمي بملء كفوفنا بأنفاسنا الملفوظة بالقرآن ومسح أجسادنا بها حتى نستطيع النوم ، ولم تنسى التأكيد علينا بقراءة الفاتحة لوالدي العزيز . وأطفأنا الضوء ونمنا ، أو بالأحرى تظاهرنا بالنوم ؛ فقد استخدم كلٌ منا الظلام سترا للتعبير عن ألمه ، والوسادة مأوى لشلالات دموعه .
.
و كانت تلك أحد أصعب الأيام التي تخللت حياتي ، يوم رحيل رجل أحبّ زوجته وأبنائه بإخلاص ، رجل أحبّه كل من عرفه وسمع عنه ، رجل لطالما أفتخرتُ به وأعتبرته أعظم الرجال في حياتي .
اللهم أرحم أبي برحمتك الواسعة وأغفر له ذنوبه وأعفو عنه وأسكنه فسيح جناتك ، وأجعل لقبره نورا ولوحدته ونيسا يا أرحم الراحمين .
.
.
رانيا محسن