17-02-2003, 10:48 PM
|
#6
|
عضـو مُـبـدع
بيانات اضافيه [
+
]
|
رقم العضوية : 3387
|
تاريخ التسجيل : 01 2003
|
أخر زيارة : 15-06-2003 (12:02 AM)
|
المشاركات :
854 [
+
] |
التقييم : 10
|
|
لوني المفضل : Cadetblue
|
|
حكمة لقمان:
رأس الحكمة معرفة الخالق وحبُّه والخوف منه والشكر له على نعمائه الجليلة وآلائه الجميلة التي عجز فكر الإنسان عن إدراك عظمتها كما عجز عن إحصاء عددها، يقول زين العابدين علي بن الحسين (ع): "فآلاؤك جمَّة ونعماؤك كثيرة قصر فهمي عن إدراكها فضلاً عن استقصائها"، أي أني لست عاجزاً عن إحصاء نعمك فقط، بل وأنا كذلك قاصر عن إدراك مدى عظمتها وجلالها، وصدق الله إذ يقول في كتابه: {ولقد كرَّمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً}. أوليس بعد هذه النعم العظام و الآلاء الجسام التي أسبغها علينا ربنا ظاهرة وباطنةً ينبغي أن نكون شاكرين ومستخدمين جميع نعمه في طاعته؟! أوليس ينبغي أن نعرفه ونحبه و نرجوه ونخاف منه؟!
يقول الله تبارك وتعالى: {ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غني حميد}، ثم ذكر الله وصايا لقمان الحكيم لابنه و أُولى تلكم الوصايا النهي عن الشرك وإخلاص العبادة لله عز وجل. {وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بنيَّ لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم}. ثم جاءت التوصية الحكيمة ببرِّ الوالدين وشكر الله وشكرهما على ما قدَّماه من إحسان وتربية حسنة، كما وينبغي طاعتهما إلا في معصية الله، ومصاحبتهما بالخير والمعروف والإحسان وإن كانا مشركين! هذا وإن الحكمة لتفرض على الإنسان أن يتبع العارفين بالله والمنيبين إليه ذلك لأن الرجعى والمصير لا محالة ولا ريب إلى الله العليم الشهيد! {ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهناً على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إليَّ المصير، وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً واتبع سبيل من أناب إليَّ، ثم إليَّ مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون، يابنيَّ إنها إن تكُ مثقال حبَّةٍ من خردل فتكن في صخرةٍ أو في السموات أو في الأرض يأتِ بها الله إن الله لطيف خبير، يا بنيَّ أقم الصلاة و أمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور، ولا تصعِّر خدك للناس ولا تمشِ في الأرض مرحاً إن الله لا يحب كل مختال فخور، واقصد في مشيك و اغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير}.
تلك هي حكمة العقلاء وإرشادات الحكماء، وعلينا أن نوصي أبناءنا بها ونأخذ بأيديهم إلى حيث العمل بهذه الإرشادات الكريمة التي تورث المجتمع سعادةً وكرامةً وحياةً طيبةً وعيشةً هنيئةً.
وعادت آيات السورة سورة لقمان التي تدعو لانتهاج طريق الحكمة في الحياة إلى التذكير بنعم الخالق الكريم لما في ذلك من الأثر الفاعل في نفس الإنسان السوي ودفعه نحو طريق الصواب والقيام بأداء الشكر والعبادة الخالصة من جميع ألوان الشرك.. ولكن من الناس من يجادل في الحق ويبعد نفسه بالعناد والتكبر عن طريق الحكمة والهداية والصلاح. {ألم تروا أن الله سخَّر لكم ما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة ومن الناس من يجادل في الله بغير علمٍ ولا هدىً ولا كتاب منير ، وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير}. أهذا من الصواب ياابن آدم؟ كيف تختار طاعة آبائك الضالين وطاعة الشيطان عدوك المبين الذي يجرُّك إلى عذاب السعير على طاعة ربك الرحمن الرحيم الجواد الكريم؟!
{أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلاً} عجباً! كيف يختار الإنسان طاعة عدوه الخبيث والنتيجة عذاب السعير، ويرفض طاعة ربه والموعود جنات النعيم؟! أفهذا من العقل والحكمة أم من التهور والجنون والضلال؟! إن العاقبة والخاتمة هي الأهم، وينبغي على العاقل أن يفكر ألف مرة وألف مرة قبل أن يسلك أيَّ منهاج وقبل أن يقدم على أيِّ عمل فإن كانت العاقبة سارَّةً أقدم وإن كانت ضارَّةً أحجم، وقد جاء في الحديث الشريف:"لا عقل كالتدبير". ولذلك نجد سورة الحكمة سورة لقمان تذكِّر بالعواقب ونتائج السلوك مستقيماً كان أو أعوجاً.
حقاً لماذا لا أسلم وجهي لله وأُحسن العمل في أيامٍ قلائل ثم تكون النتيجة هي المتعة الأبدية و السعادة السرمدية؟! ولماذا اختار الضلال والضياع ثم إلى الله الرجعى وبعد المتعة القليلة في دار الفناء لا أرى أمامي إلا طريقاً واحداً لا محيص عنه وهو المؤدي إلى العذاب الشديد؟! هكذا تدعونا سورة الحكمة للتفكُّر في النتائج والعواقب والخواتم، فما فائدة لهوٍ إن كان ينتج عذاباً، وما ضرر صبرٍ قليل على منهاج صحيح إن كان يورث عزاً وكرامةً لا تزول ولا تنقضي؟!
ولضرورة وعي هذه البصيرة نجد التأكيد عليها في أول السورة وفي وسطها وفي نهايتها ، بل وفي كثيرٍ من آيات القرآن وسوره ، وهكذا نجد في الروايات الشريفة تأكيداً بالغاً على ضرورة النظر في نتائج الأعمال وعواقب الأفعال، يقول النبيُّ الأكرم محمد (ص) في وصيته لأبي ذر الغفاري :" يا أبا ذر! إنكم في ممرّ الليل والنهار في آجالٍ منقوصةٍ وأعمالٍ محفوظة والموت يأتي بغتةً ومن يزرع خيراً يوشك أن يحصد خيراً ومن يزرع شراً يوشك أن يحصد ندامةً ولكل زارعٍ مثلُ ما زرع، يا أبا ذر! الكيّس من دان نفسه (أي حاسبها) وعمل لما بعد الموت، و العاجز من اتبع نفسه وهواهاوتمنى على الله عزَّ وجلَّ الأماني". وفي هذه الوصية سأله أبو ذر فقال: يا رسول الله! أيُّ المؤمنين أكيس؟ قال:"أكثرهم للموت ذكراً وأحسنهم له استعداداً ". نعم، الكيّس الفطن والعاقل الحكيم الذكي والواعي البصير هو الذي يتفكَّر في النهاية ويتذكر المنيّة التي تبطل الأمنية والتي هجمت على كثيرٍ من الناس فحلّت بهم معها الحسرة والندامة والعقاب على سوء الفعال، يقول الشاعر:
النفس تبكي على الدنيا وقد علمت أن السـلامة فيها ترك ما فيها
لا دار للمرءْ بعد الموت يسكنها إلا التي كان قبل المـوت بانيها
فلننظر كيف بنينا دارنا دار القرار!!
قال رسول الله (ص): "يا أبا ذر! إذا دخل النور القلب انفسح القلب واستوسع"، فقال أبوذر: فما علامة ذلك بأبي أنت وأمي يا رسول الله؟ قال: "الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والإستعداد للموت قبل نزوله".
قال تعالى: {ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى وإلى الله عاقبة الأمور، ومن كفر فلا يحزنك كفره إلينا مرجعهم فننبئهم بما عملوا إن الله عليم بذات الصدور، نمتعهم قليلاً ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ} ويا للعجب! كيف يعصي العبد ربه مع علمه بأنه هو الخالق العظيم الذي أوجد السموات والأرض، وهو الذي له ملك الأشياء و آيات صنعه وتقديره لا تنفد ولا تنتهي لكثرتها غير القابلة للإحصاء. وقد قال الشاعر:
ومن عجبٍ كيف يعصى الإله أم كيف يجحده الــجاحدُ
وفي كل شيء له آيــــةٌ تدل على أنه واحــــدُ
قال تعالى: {ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون، لله ما في السموات والأرض إن الله هو الغني الحميد، ولو أن ما في الأرض من شجرةٍ أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم}، ثم ذكَّر عزَّ وجلَّ بيوم الحساب و أنه قادر تمام القدرة على بعث الناس ومحاسبتهم، وهو السميع البصير: {ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفسٍ واحدة إن الله سميع بصير}، والنظر في الكون وما فيه من آيات يهدينا إلى الإعتقاد بقدرة الله وعلمه المطلقين اللذين لا حدود لهما، قال تعالى: {ألم ترَ أن الله يولج الليل في النهار وسخَّر الشمس والقمر كلٌ يجري إلى أجل مسمىً وأن الله بما تعملون خبير ، ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل وأن الله هو العليُّ الكبير}، وإذن، يجب علينا أن نستعد لذلك اليوم العظيم فلا بد وأنا سنقف للحساب بين يدي الإله القدير على كلِّ شيئ و العليم بكل شيئ، والحكمة كذلك تدعونا -وكما قدّمنا- لشكر الله على نعمائه وليس الإعراض عن طاعة الخالق الكريم، ولكن لا ينظر إلى آلاء الله ويؤدي شكرها إلا من أُوتي نصيباً من نور الصبر والشكر والمعرفة لحق المنعم.
قال تعالى: { ألم ترَ أن الفلك تجري في البحر بنعمة الله ليريكم من آياته إن في ذلك لآيات لكل صبَّار شكور}، هذه نعمة من نعم الله وآية بينة من آياته، وما أكثر نعمه وما أكثر آياته تبارك وتعالى، ومن نعمه الكبيرة على الناس أنه يستجيب دعواتهم في الأزمات الصعبة ويخلصهم من الأخطار التي لا يستطيع صرفها سواه، فأين الطاعة لله بعد ذلك وأين الشكر على لطفه ورأفته ورحمته؟! قال تعالى: {وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجَّاهم إلى البر فمنهم مقتصد وما يجحد بآياتنا إلا كل ختَّار كفور}، وخُتِمت السورة المباركة بالتذكير باليوم الرهيب، اليوم الذي لا ريب فيه واليوم الذي يلاقي فيه الإنسان جزاءه، ويُحاسب على جميع أفعاله، وإذن فعلى العاقل الحكيم الذي يمتلك شيئاً من التعقل والتصرف الصحيح أن لا يغترَّ بالحياة الدنيا ولا تغرّه زينتها الفانية ولا ينخدع بتسويل الشيطان الغَرور الذي يسلم الإنسان إلى الهلاك حين ينزل به العقاب على سوء أفعاله التي زيَّنها له عدو الله المبين ، كما وتذكِّر السورة في آخر آية بالموت الذي يأتي بغتة ولا يدري أحدٌ متى يهجم عليه وينقله إلى خير دار أو شر مآب ، وإذن فعلى صاحب العقل والحكمة أن يأخذ حذره ويجدَّ في أمره ويفكر في عاقبته ويستعد لما هو آتٍ لا محالة.
|
|
|