الوعي النفسي بين الفارابي وفرويد
السعادة كما يراها فرويد:
قضى فرويد ما يقرب من الخمسين عاماً باحثاً ودارساً مستقصياً لمظاهر النفس الإنسانية مجاهداً في نشر آرائه والدفاع عنها وداعياً إلى العمل على التحقق منها ، وكان أول من فكر بوضع التحليل النفسي في علم خاص سمي فيما بعد بعلم النفس.وقد كان أهم ما استغرق اهتمام فرويد من الناحية النظرية هو التعرف على الأسس الأولية للسلوك الإنساني ، تلك الأسس الفطرية التي تسبق كل تعلم، يولد بها الإنسان وتنطوي عليها نفسه فتدفعه إلى كثير مما يصدر عنه من ألوان المشاعر أو أشكال التفكير ومظاهر العمل والسلوك، ولم يكن إلا أكثر العلماء المعاصرين ميلا إلى دراسة تلك الدوافع الفطرية عن طريق الملاحظة والنظر والتجريب ، وقد دار نقاش طويل حاد بين العلماء عن تعريفها وتحديد مداها وتفنيد أشكالها ، وكثرت المناقشات حول طبيعة هذه الدوافع وأصولها، واختلفت الأسماء التي أطلقت عليها فسميت بالغرائز ، والميول، والحاجات، والحوافز والرغبات ، لكن في الواقع كان أكثر الخلاف خلافاً لفظياً يمكن اختصاره بالدوافع ذات التأثير على سلوك الإنسان.
إن الطاقة النابعة من الغرائز العضوية هي أصل الدينامية في الحياة النفسية، وتتجلى هذه الطاقة في الغرائز التي تؤلف كمية من الاستثارة أو التوتر المؤلم الذي يلح في طلب الإشباع أي تفريغ شحنة الطاقة و ارتخاء التوتر وهذه هي اللذة أو السعادة في رأي فرويد ، فالمعادلة الأساسية عنده هي (إحساس التنغيص يتناسب طردا مع زيادة التنبيه ، بينما يتناسب إحساس اللذة عكسا مع تناقص هذا التنبيه)، وهكذا فإن اللذة أو السعادة عنده هي حالة سلبية وليست إيجابية فانتفاء الألم أو التنبيه أو الإثارة والانعدام المطلق لها حالة لا يمكن بلوغها إلا بالثبات والسكون أي العودة إلى حالة الجمود والتي يسميها البعض (النيرفانا) ، وهي في رأي فرويد تمثل غريزة الموت.
ثم يضيف فرويد إلى حالة التخلص من التوتر أو التنبيه ما سماه بالتكرار، فهو يرى أن تحقيق اللذة للمرة الأولى يتحول في المرات اللاحقة إلى ما يعرف « اللذة في التكرار » وهي حالة تستعيد الماضي بثبات ينحو إلى القدسية، الأمر الذي يجسد مبدأ العطالة وهو مبدأ يقابل غريزة الموت عنده فكلاهما له الأثر نفسه في السكون والثبات، ولكن هل توصيف فرويد صحيح فيما يتعلق بالغرائز الأساسية ؟!..
الحقيقة أن فرويد يخلط بين غاية الغرائز في العطالة أو غريزة الموت وبين خفض التوتر الذي يتحدث عنه بوصفه طلب نفسي ملح، وإذا كانت اللذة تحصل في صراع بين التوتر، وطلب الاسترخاء بصورة تتحد فيها اللذة مع الألم فكيف يسعى الإنسان إلى إطالة عمر اللذة إذا كانت ستصل إلى حدها الأقصى في العطالة والسكون؟.. بسبب هذا التساؤل اقترح فرويد مبدأ التكرار الذي يعني بصورة ما تكرار تجربة سابقة حصلت في الماضي ، وهذا يقود إلى الدوران في المكان والعطالة، ووفق هذا الفهم الذي خلص إليه فرويد، تصبح السعادة هي في استبعاد الألم والتوتر، وهذا شبه مستحيل في عالمنا.
هل السعادة حلم صعب المنال ؟!..
هنا تبدو نظرية الفارابي أقرب إلى الواقع لأنها تضع السعادة جنباً إلى جنب مع القناعة والرضا ، إنه نوع من التعايش السلمي مع الواقع مهما بلغ ألمه وتوتره وتأثيره السلبي.
|