حقيقة العلاج النفسي (مفهوم الندية والتوازن مع الآخرين)
لقد أساء الكثير من دارسي علم النفس استخدام هذا العلم بشكله السليم
إلى درجة أننا أصبحنا نقول عن الطبيب النفسي أو المعالج النفسي
بأنه في ذاته يعتبر مريض نفسياً أو غير طبيعي.
وقد يكون الحق معنا عندما نقول ذلك، حيث أن اتجاه دارسي
علم النفس يميل بدرجة كبيرة إلى تشخيص أو كشف العله وما يتبع ذلك
من احتمال استغلال دارسي علم النفس لهذه المهارة
وتوظيفها في إخضاع من يكتشف علاتهم إلى تحقيق أتزانه النفسي
على حسابهم دون أن يسمو إلى الهدف الأول والأخير والمتمثل
في علاج المشكلة وليس تشخيصها.
فالكثير من الناس يعتقدون بأن المعالج النفسي أو الطبيب
أو الباحث النفسي هم أناس يسعون للكشف عن مشاكل الآخرين
ولتحليل شخصياتهم ومعرفة نقاط ضعفهم،
ومن ثم السعي لفهم المشكلات النفسية عن طريق قياسها عليهم
وبالتالي السعي لتطوير قدرته (أي المعالج النفسي) على تحليل
الشخصيات (psycholagysing) والبعض الآخر من الناس يخاف
من الأخصائي النفسي ويشعر بالضعف أمامه
بسبب أنه يرى نفسه ناقصاً أمام هذا العبقري.. يرى نفسه مريضاً
معتلاً بينما يرى العالم النفسي قوياً متوازناً.
والحقيقة هي أن أغلب الناس يغفل عن حقيقة أن جلسة العلاج
النفسي هي جلسة مشتركة، وأن تعريف العلاج النفسي هو أنه كلام
أو تفاعل يدور بين شخصين أحدهما
يلعب دور المعالج والآخر يلعب دور المريض
(رغم أن كل منهما يعتبر معالج ومريض في الوقت نفسه)
بحيث تكون نتيجة ذلك الكلام أو التفاعل هي شفاء المريض من مرضه
واكتشاف المعالج لنقاط ضعفه الخاصة به (اكتشافه لعلاته الشخصية)
وما يتبع ذلك من سعي المعالج إلى محاولة شفاء ذاته ومعالجتها،
سواءٌ تم ذلك أثناء التفاعل مع المريض أو مع مريض آخر
أو معالج أكثر خبرة أو صديق أو....إلخ.
والكثير منا أيضاً يغفل بأن أي اجتماع بين شخصين أو أكثر
(وربما بين شخص وبيئة طبيعية خالية من الناس،
أو بين شخص وحيوان أو جماد أو ظاهرة طبيعية أو جغرافية،
كالمطر والسحاب والقمر أو ربما ظرف زماني معين أو مكاني)،
نقول، الحقيقة هي أن الكثيرين منا يجهلون بأن تواجدهم مع أناس آخرين
مثلاً، سواء أصدقاء أو أقارب أو أعداء أو أحبة،
وسواءً كان التفاعل سلوكي أو قولي أو تعبيري، فقول،
الكثيرين منا يجهلون بأن تلك التفاعلات إنما هي جلسات علاج نفسي،
بحيث يستكشف الشخص فيها نواقص نفسه،
ويجد ما يتممها أثناء التفاعل مع الآخرين ويجد الحل أثناء تفاعله
مع الآخرين (سواء تم ذلك بطريقة واعية أم بطريقة لا واعية).
فهو قد يجد الحل في فكرة يسمعها أو سلوك يعجبه ويتشربه دون أن
يشعر أو في أنفعال يتقمصه ويتشربه،
وهذا أيضاً بالإضافة إلى أن الآخرين حتماً لابد أن يجدوا لديه حلول
لمشاكلهم. ولهذا يمكننا أن نقول بأن التفاعلات بين الإنسان وبيئته
(سواء كان فيها بشر أم طبيعة) هي حتماً تفاعلات علاجية.
إلا أنه رغم أن هذه الجلسات العلاجية النفسية التي تحدث
دون إشعار مسبق بأنها جلسات علاج نفسي، فإن هناك أيضاً جلسات مرضية،
بحيث يصاب الشخص فيها بالمرض
(أي إذا ما جلس في بيئة معينة أو مع أناس معينون).
وهذه الجلسات المرضية لا تتواجد إلا إذا لم يكن الشخص يدرك
حقيقة أنه يملك ما يُفيد به الآخرين وأن الآخرين في الوقت نفسه
لا يملكون ما يفيدونه به، أو إن كان الشخص يعتقد بأنه هو الذي يملك
الفائدة (الشفاء) بينما الآخرين يملكون الضرر (المرض)
أو أن الآخرين يملكون الشفاء بينما هو يملك المرض.
ففي تلك الحالات لابد أن يتحول التفاعل بين الطرفين إلى تفاعل
مرضي وليس علاجي.. وسوف يكون الخاسر في هذا التفاعل
هو صاحب النظرة الخاطئة، بينما يظل الذي يحافظ على إدراك أنه يحمل
علاجاً لعلات معينة لدى الآخرين وأن الآخرين يملكون أيضاً العلاج
لعلات معينة لديه، فإنه سيظل يعيش التفاعل على هيئة
تفاعل علاجي ممتع وليس مرض ممل.
وهو أيضاً سوف لن يصاب بعدوى المرض النفسي،
وذلك بسبب أنه يحمل التحصين والمتمثل في إدراك
حقيقة أن كل ما يحيط به لابد أنه يحمل علاجاً يخفف من معاناته،
وأنه (أي الشخص) أيضاً يحمل علاجاً يخفف من معاناة من يحيطون به،
وأن كلا الطرفان يفيدان بعضهما البعض.
ولا نستغرب الآن عند سماع المثل الشعبي
المصري (من جاور السعيد يسعد)،
كما لن نستغرب إذا سمعنا إن المرض النفسي ينتقل بالعدوى.
فالسبب في سعادة من يجاور السعيد هو أن السعيد
يحمل التحصين ويحصن به جليسه، بينما الشقي لا يحمل التحصين،
فإذا ما جاور إنسان عادي لا يحمل التحصين إنساناً شقياً فإنه
سيمرض وسيشقى معه، وسوف لن يستفيدا من لقائهما
وإنما سيكون تفاعلهما مرض في مرض.
ونستطيع الآن أن نجد مدخلاً لفهم حقيقة الندية.
فكما أن المريض النفسي يعتبر نداً مكافئاً للمعالج النفسي
من حيث أن كلاهما يحملان اعتلالات نفسية وكلاهما يحملان
مفاهيم باعثة على الشفاء، وأن المعالج يكتشف علته أثناء تفاعله
مع المريض وقد لا يساعده المريض على حلها بطريق مباشر
وإنما بطريق غير مباشر عن طريق تشخيصها وتحديدها للمعالج،
وكذلك المريض يكتشف علته أثناء التفاعل مع المعالج
ويتم تحديدها وتشخيصها، ليصبح العلاج بعد ذلك أمراً سهلاً
حسب المثل القائل: إذا عرف السبب بطل العجب،
فإننا يمكننا الآن أن نوسع مفهوم الندية بحيث نجعله يشمل
معظم أو كل ما يعرفه الشخص عن نفسه.
فنحن أحياناً إذا ما وقفنا أمام حكيم أو شيخ عالم بالدين
أو شخصية إدارية كبيرة أو خلافه فإننا قد نشعر نوعاً ما بالنقص
على أساس أننا أقل معرفة وقدراً وبالتالي أقل صلاحية في أن نكون
نداً لتلك الشخصيات. وقد يكون الأمر طبيعي نوعاً ما إذا كان
الأمر يتعلق بالشؤون الاجتماعية أو الدرجات الإدارية،
ولكنه أبداً ليس طبعي ولا يمكن أن يكون طبيعي إذا ما كان الأمر يختص
بالإطمئنان النفسي والإتزان، خاصة لو تعلق الأمر بالتفاعل
مع الشخصيات المكافئة كالأصدقاء والأقارب والغرباء الذين
نصادفهم في حياتنا اليومية.
إن عدم تحقيق الندية إنما يعني أن يشعر الشخص بأنه
أقل قدراً من قرينه الذي يتفاعل معه، وذلك عندما يقول الشخص
لنفسه : أنا جاهل وهو عالم.. أنا صغير وهو كبير..أنا ضعيف وهو قوي..
من حقه وليس من حقي .. هو كالأب وأنا كالطفل..
هو فعال وأنا عديم الفائدة.. هو نفعني وأنا لم أفعل..
هو الخير وأنا الشر.
إن تلك العبارات قد تخرج بين الأحبة في أحوال العتاب
بحيث يشعر أحدهما بأنه النقص والسلبية والمحتاج للآخرين،
بينما يرى بأن الآخر هو الكمال والإيجابية وقاضي الحاجة.
ولكن أبدا لا ينبغي أن تكون نظرة الشخص لنفسه مع الآخرين
وسنكتفي هنا بالإشارة إلى ضرورة تحقيق الندية مع الآخرين،
بمعنى أن تكون الذات نداً مكافئاً للموضوع لا تقل عنه
ولا يزيد عنها في شيء..وهذا بالطبع سيجعلها في حالة إتزان،
وهي الحالة الضرورية واللازمة لتحقيق الطمأنينة
بحيث أن الشخص لا يمكن أن يشعر بالإطمئنان خارج توازن الندية.
أخوكم الدكتور رعد الغامدي
|