الدماءتجري بعروقك، والقلب ينبض بجوفك، والهواء يخرج ويدخل إلى جسدك, تناموالمصنع الذي بداخلك يعمل فلا يتعطل التنفس، ولا الهضم، ولا الحركةاللاإرادية, كل ذلك بنظام مُحْكَمٍ، وتوازن معلوم، لخالقه حكمة عظيمةلأهل التدبُّر والبصيرة:
{
وَفِيأَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ}[الذاريات:21].
وفيالجانب الآخر السماء مليئة بالنجوم والأفلاك, والمجرات منتشرة فيالفضاء كرذاذ الماء المتناثر, تراها حين تغيب الشمس عنك, وهي أيضًاتظهر على أخوة لك آخرين في الجزء الآخر من العالم, تضيء عليهم حياتهم, وتعلن بداية يوم جديد, مفعم بالحيوية والنشاط والطموح, وتغيب عن آخرينلتعطيهم الفرصة للراحة والاسترخاء والتأمل, بعد يوم حافل بالإنجازاتوالمسرات.
إنها توليفة ربّانية قدّرها مقدِّر الكون وفاطرالسموات والأرض, لهدف سامٍ، وبُعْدٍ أخّاذ، ورسالة بالغة الحكمة، وهي "التوازن".
وعليه فإن رسالة الله للإنسان ومعشر بني البشر توحيوتركّز على معنى التوازن في الحياة بجميع تفاصيلها وأحداثها وجميعجوانبها وأركانها, الصغير من الأمور, والكبير من القضايا.
ولعلالمتأمل المطالع في حال الأفراد والمجامع يرى بونًا شاسعًا بين كلالدعوات الربانية للحياة المتوازنة بجميع طقوسها وبين واقع البشرالحالي.
وهنا يكون الاختراق قد وقع؛ حيث غياب الترتيب والتنظيم وعلمإدارة الأوليات, وهو من العلوم التي أصبحت ثقيلة في عصرنا الحالي, نظرًا لانقسام جزء كبير من الناس بين الإفراط والتفريط وبين الإهمالوالإقبال وبين الإقلاع والإدمان, وهذه هي القصة, تتكرر على مرّ الزمانوعلى اختلاف المكان.
فالناس صنوف وأقسام, أشكال وألوان مختلفينلحكمة التنوع البشري الذي أراده الله, لتنويع الإبداع واختلاف الأعمال, والأدوار التي يلعبها كل عنصر منهم في حياته المحددة, فكل طرف محتاجللآخر بفعل قانون الكون والحياة الرباني.
وهنا نشير إلى نماذجسلبية لا تُحتذى ولا تُقتدى من أناس ركزوا على جانبٍ, أبدعوا فيه ولكنفشلوا في جوانب أخرى لا تقل أهمية عن الجانب محور الاهتمام, فكانتالحسرة والندامة, وكانت الأمراض والأعراض, ولكن لا يصلح العطار ما أفسدالدهر مهما بلغ الندم والحسرة.
فمنهم المقبل على العمل بلا رحمةوهو في الوقت ذاته مهمل للأسرة والعلاقات والترويح, ومنهم المهمل للعملوالمقبل على الأصدقاء والرحلات والترفيه والزيارات بكل صنوفهاوألوانها.
وهناك الصنف الذي لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء فهومهمل في كل شيء وأي شيء, ويعيش على هامش الحياة, حيث أعطى عقله وفؤادهإجازة مفتوحة, فقد أعياه القعود وأتعبته الراحة فهو عالة على مَن حولهورقم ساقط في عالمه!!
وهناك المهتم بهندامه المهمل لصحته, وهناكالمهتم بغذاء بطنه والمهمل لغذاء عقله, وهناك المهتم بغذاء عقلهوالمهمل لغذاء روحه, وهناك المهتم بزوجته وأولاده والمهمل لوالديهوإخوته, وهناك المهتم بعمله الخاص والمهمل لعمله الوظيفي, وهناك المهتمبيومه والمهمل لغده, وهناك الغارق بماضيه الغافل عن مستقبله, وهناكالمهتم بالقشور والمظاهر والمهمل للب والمخابر, وهناك المهتم بالمالوالمهمل للمصدر, وهناك المهتم بالمنصب المهمل للمسئولية, وهناك المهتمبالتنظير والوعود والمهمل للإنجاز والتنفيذ, وهناك المهتم بالنجاحوالمهمل للقيم, وهناك المهتم بالحقوق والمهمل للواجبات!!
وهناكالصنف الأخطر على الإطلاق كونه يعتبر قمة في الإبداع الأسري والتميزالاجتماعي والتألق الوظيفي والحضور العلمي والسلوك الأخلاقي, ولكنهيحقق فشلاً كبيرًا وإخفاقًا عظيمًا مع خالق الساعة والدقيقة والأضحيةوالعقيقة سبحانه وتعالى.
فهذا الإنسان ينفر من أي مظهر إيمانيأو مسلك ديني أو عمل يتواصل به روحيًا ونفسيًا مع مركز الروح الدافئةوملجأ الإنسانية الباحثة عن الطمأنينة؛ وهو الحق سبحانه, فعلاقته معجبار السموات والأرض ليست صحية وتُعانِي من السقم والضعف!!
ولعلجميع هذه النماذج التي نطرحها هنا من واقعنا المحيط ومجتمعنا المعاصر, تعطينا مؤشرات خطيرة وهامة لغياب التوازن عن حياة أغلبية الناس؛ ممايهدّد بكوارث صحية واجتماعية ونفسية كبيرة، وهذا ما تأكده الدراساتالعلمية المنشورة.
يتبع ,,,