عرض مشاركة واحدة
قديم 27-03-2003, 08:08 AM   #11
سيف الله
عضـو مُـبـدع


الصورة الرمزية سيف الله
سيف الله غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 3387
 تاريخ التسجيل :  01 2003
 أخر زيارة : 15-06-2003 (12:02 AM)
 المشاركات : 854 [ + ]
 التقييم :  10
لوني المفضل : Cadetblue
بارك الله فيك



اتعظ يا عبد الله (اسمح لي اخي بهذه المداخله)
من مظاهر قدرة الله وتجليات تدبيره

تبدأ سورة الذاريات بآيات تشير الى ما في الكون من مظاهر قدرة الله تعالى وتجليات تدبيره. فهذه الدورة الحياتية التي تبدأ بالرياح تذرو البذور وتنشرها لتتلاقح، ثم تحمل السحب الثقيلة بالغيث وتجري في السماء بيسر، بالرغم من الوقر الذي تحمله، ثم يقسمها الله حسب مساحات الأرض بتقدير حكيم تفيض على السهول والروابي والجبال، وعلى الأراضي البعيدة كما القريبة.
وعشرات الألوف من السنن والأنظمة تتولى تدبير هذه الدورة النباتية التي ينهض كل عامل فيها بدوره المرسوم، وتتكامل العوامل حتى تبني حياة زاخرة بالخير والبركة.
أوليس في ذلك عبرة تهدينا الى ما ورائها من تقدير وتدبير، وإن الإنسان الذي تخدمه هذه المنظومة المتكاملة من العوامل لا يمكن ان يخلق عبثا او يترك سدى. إنه هو الآخر جاء لحكمة بالغة، ويذهب وفق سنة نافذة، وتحكمه سنة الجزاء العادل.
وهكذا تتواصل آيات الكتاب المبين ببلاغة معجزة وفي ايمان متلاحقة لتبصرنا بأن الوعيد حق والجزاء واقع لا ريب فيه. وهذه من أبرز غايات القسم في آيات الذكر. قال الله تعالى: (والذاريات ذروا).
انها الرياح التي تنشر الغبار والأوراق والبذور، ما أقدرها من قوة، وما أعظم تدبير من سخرها لبث البذور في الفلوات والمغازات المتباعدة..
تفكر ماذا لو سكنت الريح، ولم تكن هذه العواصف الهوج والأعاصير الرهيبة، كيف كانت تنتشر في الأرض بذور النباتات الطبيعية التي تكمل كل واحدة منها الأخرى، وهي جميعا ضرورة قصوى في دورات الحياة النباتية والحيوانية.
إننا عندما نمر عبر أراضي شاسعة، ونجد آثار الحياة في كل بقعة ولا نعرف ما وراءها من أسرارها ذرو النباتات وتلاقحها، وما في كل واحدة من دور عظيم في منظومة الحياة المتكاملة.. ولو فكرنا وعلمنا لما وسعنا إلا ان نهتف مسبحين: الله أكبر.
ثم قال ربنا عزوجل: (فالحاملات وقرا)
بعدما تستقر البذور في رحم الأرض تجري الرياح الى مراكز السحب فوق البحار والميحطات، وتحمل كتل الماء الثقيلة بعيدا عن مجال تكونها لتسقي الأرض من أعلى فلا يبقى موقع جافا، ويفيض موقع آخر فيضانات مضرا. من الذي قدر أمر هذه السحب ومواقع سقياها، أوليس المدبر الحكيم؟
قال الله تعالى: (فالجاريات يسرا).
هذه السحب تجري بيسر، ثم تهطل فتمتلئ الروافد والأنهار، وتجري فوقها السفن بيسر لتصبح أفضل وسيلة لتبادل البضائع بين الأمم منذ ان خلق الله الإنسان وحتى اليوم.
بعد ذلك قال الله تعالى: (فالمقسمات أمرا)
انهم الملائكة الذين يشرفون بأمر الله على تدبير هذه العوامل الحياتية.
وفي تفسير هذه الآيات يذكر ان ابن الكوّا (وكان من الخوارج) سوئل الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام عن (الذاريات ذروا) قال: الريح. وعن: (الحاملات وقرا) قال: هي السحاب. وعن: (الجاريات يسرا) قال: هي السفن. وعن (المقسمات أمرا) قال: الملائكة. (تفسير نور الثقلين، ج5، ص120)
إنما توعدون لصادق
اذا كان معنى القسم في كلامنا ـ نحن البشر ـ اتصال موضوعة بأخرى بصورة اعتيادية، فإن معناه في كلام الرب اتصالهما بالحق. أرأيت لو قلت: لعمري انني لصادق، ماذا يكون معناه؟ أوليس معناه انك ربطت صدقك بعمرك، وزعمت انهما موضوعتان متصلتان حتى لو فقدت احداهما (صدقك) كانت الثانية (عمرك) مفقودة هي الأخرى؟
وقد لا تكون الموضوعتان متصلتين ببعضهما في الواقع، بل في اعتبارك او تقديرك فقط.
بينما اذا جاء القسم في كلام ربنا عزوجل، فإن إتصاله بما أقسم له حق وواقع لا ريب فيه. فإذا قرأنا في القرآن الكريم: (والتين والزيتون وطور سنين وهذا البلد الأمين) وتلونا بعدها: (لقد خلقنا الانسان في أحسن تقويم). فإن معنى ذلك ان هناك اتصالا واقعيا بين خلق الإنسان في أحسن تقويم وبين ما سبق من التين والزيتون اللذين بهما طعامه، (وطور سنين) الذي يحمي البلاد من الأعاصير والأعداء، ويوفر الكثير من عوامل الحضارة، (والبلد الأمين) الذي يزرع السكينة في نفوس الناس بين كل ذلك وقوام خلق الإنسان.
كذلك في سياق سورة الذاريات حينما يقسم الله بالرياح التي تذرو، والسحب التي تسقي، والسفن التي تجري، والملائكة الذين يقسمون أمرا، فإن هناك ربطا بينهما وبين الحقيقة التالية: (إنما توعدون لصادق).
أولا: لأن رب العالمين المدبر لهذه القوى العظيمة لا يخلف وعده، وهل يخلف وعده الا العاجز، وهل لنا ان نتصور شيئا من العجز في مقام ربنا القوي القاهر المقتدر، الذي حمل الرياح العاصفة هذه المقادير العظيمة من الماء، وساقها من فوقنا الى حيث شاء من الأرض الميتة فأحياها؟
كلا؛ إنه صادق الوعيد، وحق لنا ان نخشاه قبل ان يحل بأرضنا الدمار والبوار.
ثانيا: ان كل تلك القوى المحيطة بنا تؤدي دورها حسب تقدير العزيز العليم، فكيف لا يخضع الإنسان لذلك التقدير؟ كيف ترك يتبع هواه؟ ولماذا جاءته النذر من بين يديه ومن خلفه يحذرونه من عذاب شديد؟
بلى؛ انه لم يترك الى الأبد، إنما ليوم الفصل حيث ينتظره الوعيد الصادق.
دعنا اذا نحذر الآخرة، ونتقي ما يعرضنا فيها للعذاب. هكذا تتصل حقائق القسم السابقة بحقيقة الوعيد الذي أنذر به الناس.
إن الدين لواقع
ثم قال ربنا عزوجل: (وإن الدين لواقع)
الدين (ذلك الجزاء الأوفى الذي بشرنا به لو اتقينا الرب) حق، ويقع في ميعاده المحدد.
ومن المفيد ان نذكر هنا ان البعض قال ان الدين هو الجزاء، وان يوم الدين هو يوم الجزاء، وعليه فإن الدين ـ حسب هذا الرأي ـ يقع في الآخرة. ولكن الأمثال التي يضربها القرآن فيما يأتي من واقع التاريخ البشري في الدنيا ولا تخص الآخرة. من هنا يمكن القول ان الدين كلمة عامة تشمل الدنيا أيضا.
بلى؛ الجزاء الأوفى في الحياة الأخرى، أما الدنيا فالجزاء فيها محدود.
إصلاح الذات لإصلاح الحياة
إن تقدير الله حكيم، وتقسيم الملائكة الأمر يجري وفق ذلك التقدير، فكيف لا يتصل بسلوك الإنسان وما يختاره لنفسه من خير وشر.
الأمنة والخوف، التقدم والتخلف، الغنى والفقر، الصحة والمرض، والوفرة والجدب.. كل ذلك يخضع لتقدير الرب الحكيم. ولعل وعي هذه الحقيقة يفتح أبواب المعرفة أمام الإنسان، ويعطيه مفك ألغاز الخليقة من حوله، ويضعه على المنهج السليم في بحثه عن العلل والأسباب. إنه باختصار سبيله نحو الحضارة. أليس التخلف ناشيء من الفصل بين سلوك الإنسان وواقعه؟ اذا فإن الخلاص منه يكون بمعرفة اتصالهما ببعضهما اتصال العلة بالمعلول.
ومن الملاحظ ان اكثر الناس يجهلون او يغفلون عن هذه الحقيقة؛ ان ظواهر الطبيعة وأحداثها تخضع لتقدير حكيم، وان سلوك كل واحد من أبناء البشر يؤثر ـ بقدره ـ في هذه الظواهر، لذلك فهم يتمنون تحسن حياتهم ولكن دون ان يسعوا الى ذلك بتحسين سلوكهم. والقرآن الحكيم لا ينفك عن تأكيد هذه الحقيقة لعلنا نبلغ أهدافنا بأقصر السبل وأمنها، الا وإنه إصلاح الذات لاصلاح الحياة.
صفاء السراج


 

رد مع اقتباس