مِيلادُ مَطر
(1)
ها هو اللّيل يغمرني بهدوءٍ رهيف , تنتابهُ بينَ فينةٍ و أخرى أصداءُ أصواتٍ بعيدة , تمزّقُ أستارَ الصمتِ , ثمّ و بسرعةٍ تخيطهـا . أتقلّب في مهجع ِ ما بعدَ منتصفِ الليل و وجعٌ متحرّكٌ في يدي اليسرى ينبضُ في أطرافها رعشاتِ نشوة . يديَ تلكَ لم تبتعد عن مرسمي أكثرَ من مسافةِ علبةِ الألوانِ في سبعِ ساعاتِ خلت . لتنجزَ لوحةً أسميتها ( مَطَرْ ) . في تلكَ اللوحةِ جدارٌ في أعلاهُ نافذةٌ مربعة , يسترقُ منها النظرَ قمرٌ , تاركًا خلفه أثرَ شعاعٍ ينعكس على خمسٍ قطراتِ مطرٍ تسيلُ على كفِّ صخرةٍ صماء, و شعاعًا خاصًا يمتدّ نحو جوريةٍ مُحمرّة , وعندَ الجوريةِ و الشعاع تجتمع الخمسُ دمعاتِ و تنسكبُ غديرًا صغيرًا .
يدي اليسرى متورّمةٌ , و قد اعتدتُ رعشاتِ الوجع فيها حتى أني أشعرُ في أحيانَ كثيرةٍ أنها قُطعتْ لشدّةِ نوباتِ الألم التي تجتاحها ! هي من رسمتْ (مَطَرًا) في سبعِ ساعات دونَ دقيقةِ راحة , هيَ الآنَ تمتّد إليها و تلامسها دونَ أن تمسّها , فتنتقلَ إلى أطرافِ أناملي رعشةُ بردٍ خفيفةٍ من الصخرةِ الصماء الباردة . و رعشةُ أخرى دافئةٌ من ماءِ الغدير الصغير , فتغفو أناملي في حنانيّة الورقِ و الألوان , و تتسربُ إلى اللوحةِ . فتزيحُ الأحجار , و تحفرُ في التربةِ مجرىً للغدير الصغير ؛ ليمضي ! أستلُّ أناملي من غديرِ اللوحةِ , و أضعها على شفتيّ , و أرتشف تلكَ الرطوبةِ العذبةِ التي علقت بها , و الوجعُ يتبخّر و يزول , و أنا أمصّ أطراف أناملي بقوة أكبر , و أنغمسُ في نشوةِ الـ (مَطَرِ) أكثر . كنتُ كما رضيعٌ لا يطمئنُ إلا حينما تلقمهُ أمّه ثديها ؛ أنا ألقمتني اللوحةُ غديرًا صغيرًا بأكمله !
تمتدُ عينيّ نحوَ رماديةِ السقف , فتشرّعُ طاقتيّ نافذةٍ مربّعة , و يسترقُ النظرَ منها قمر , و شعاعاتهُ تمتدّ نحوَ وجهي و جسدي , و شعاعٌ خاصٌ يلتفُّ على زهرتي اليسرى المحمرّة , و حينها يطرقُ ذاكرةَ سمعي ذلكَ الصوتُ العميق :
زياد , أنتَ شابٌ انهمرتَ من لوحةِ السماءِ خمسَ قطراتِ مطرٍ في قلبِ كلّ واحدةٍ نجمة , كلّ ما قبّلتْ نجمةٌ من الأنجم ِ الخمسةِ لوحةً ؛ رسمتْ سماءَ جمال ٍ لا منتهي , فيها يضيعُ البصرُ و الوقتُ معًا في مشهدٍ تأمّلٍ خاشع , ينتهي باغماضةِ عين ٍ و نفسٍ عميقْ .
على رنةِ صوتِ أشهرِ رسّامٍ في البلدِ سهرتْ , و على دعوتهِ لأن نشتركَ سويًا في معرضهِ القادم عقدتُ الأمال , و من ثمَ خبأتها في قلبي , و السهرُ و الشعاعُ القمريًّ و قطراتُ المطرِ و المحمرّةُ و حركتي العشوائيّة في أرجاءِ غرفتي ؛ رفاقي !
(2)
يتسللُ خيطُ شعاعِ شمسِ صباحٍ باكرٍ جدًا من بينِ ستارتينِ لم أقرّب بينهما بما يكفي لمنعِ الطبيعةِ من إزعاجي , أفتح عينيّ بوهنٍ , و أتحرّكِ في فراشي بتململ ٍ بطيء , و أضم رائحةَ النوم ِ في وسادتي و أستنشقها بالقدرةِ الكاملةِ لرئتيّ , و أبتسمُ ابتسامةَ خفيفةً أقدّمها للأشياءَ من حولي رشوةً بيضاءَ النيّة , تستجدي خمسَ دقائق أخرى من نوم !
أسندُ رأسي للخلفِ , و أغمضُ عينيّ , و آخذٌ نفسًا بعبقِ الأصيلِ تتموّج فيهِ نكهة ُ بن ٍ مغريةٍ , تعجّل بمجيءِ هوسي الصباحي بفنجانِ القهوة . من الجيّدِ أني نسيتُ علبةَ القهوةِ مفتوحةً ليلةَ البارحة , فهيَ تحرّضني بشغبٍ بريءٍ على تركِ دفءِ لحافي , لتغمرني هيَ بدفئها الساحر . من يصدّقُ أني أستيقظُ من نوم ِ ساعةٍ و بعضِ أخرى لمجرّد أن أرتشفَ فنجانَ قهوةٍ دافئ , و قبلَ ذلكَ استحمامٌ سريعٌ لدقيقتين ِ سريعتين , هيَ المدّةُ التي يستغرقها ماءُ القهوةِ للغليان ! ثنائيٌ دافئ لا أستطيعُ أن أبدأ يومي بدونه ! أمي تسخر منهما و تنعتني بأني فردٌ من فصيلةِ ذواتِ الدم البارد , التي تأخذُ حمامًا شمسيًا دافئـًا في أوّل النهار , لتخفف من برودةِ دمها ! أضحك على تشبيه أمي و بكلماتٍ لطيفة أرد : لكنها يا أمي لا تشربُ القهوة ! و أضيفُ بابتسامة : و أنا يا أمي أكرهُ البرد ! و أكمل بصوتٍ لا تسمعه : أكرههُ لدرجةِ أني أرفضُ الارتباطَ بفتاةٍ إذا كتبتُ اسمها على ورقة لا يشعّ دفئـًا غامرًا ! أحدُ الأصدقاءِ المقربين اتهمني بأني مصابٌ بـ ( فوبيا البرد ) أجبته : لا . أنا أحبّ المثلجات !! و ندفَ الثلج !! و أكرهُ ثلاجاتِ الموتِ !! و حباتِ البَرد !!
(3)
أعودُ لغرفتي , و أدخلها و نظري كلّه موجّه إلى أربع مئةِ ورقةٍ منضودةٍ فوقَ مكتبي , و تفكيري كلّه منحصرٌ في حدودها , أمعنُ النظرَ فيها , و أتأملها من أعلى ورقةٍ حتى تلكَ التي تستندُ على المكتب , و أعدّها بعينيّ كما يعدّ محاسبٌ مهووسٌ رزمَ المال ليطمئنَ عليها . تلكَ الورقات هيَ مالي الوحيد !
روايةٌ أسميتها (شمسُ الأحزان) تنطبق عليها تمامًا أعراضُ (فوبيا البردِ) التي اتهمني صديقي بها , و ها أنا أؤمن بكلام صديقي أكثر, ففي قاموسي , الشمس أكبر مصدرٍ للدفء , كنتُ مكتفيًا بـ (الأحزان) عنوانًا لروايتي , لكنها الفوبيا تتكرر مرّة أخرى , لدرجةِ أني جعلتْ من عنوان روايتي دليلا ً دامغـًا على اتهامات صديقي !
البارحة كان في زيارتنا صديقُ والدي و هوَ أستاذٌ في كليّة الأدب العربي , فأطلعتهُ على مقدّمةِ الرواية , ثلاثُ صفحاتٍ بل تقلّ قليلاً, انبهرَ ممَ كتبتْ و ضاع في ثنايا الوريقاتِ الثلاثة , و تخبط في كلامه للحظات قبل أن يستعيد وقاره . لأفاجأ بهِ بعدها يبادرني بدعوةٍ لزيارتهِ في مكتبهِ الخاص لنشربَ قهوةَ الصباح معـًا ! بشرط أن أجلب معي ما استطعت اِنهاءهُ من الرواية , و وعدني قبل أن يقرأ أيّ حرفٍ زيادةً على تلكَ الوريقات الثلاث أن ينشر الرواية و على نفقتهِ الخاصة !
(4)
عندَ السابعةِ و النصف صباحًا أفتحُ عينيّ, باعتيادٍ رتيب على نفس النمط في كلّ يوم , بما في ذلك أيام عطلة آخر الأسبوع التي لم أحضَ بها منذ غادرتُ مقاعدَ الدراسة قبل ثلاثِ سنوات , لأكون أحدَ الواقفين في طابور الكادحين من الثامنةِ صباحًا و حتى غروبِ الشمس كما اتفقتُ مع ربّ العمل , و كما الواقعُ فإلى ما قبل منتصفِ الليل بساعتين . أجني من العملِ ما يسد رمقي و رمقَ أمي من الماءِ و الخبز و اللبن , و ما يزيد من مرتبي فثمنٌ بخسٌ يستهلكه في مدينتي طالبُ المرحلةِ الإبتدائية لفطوره المدرسي في يومين أو ثلاثة .
بصوتٍ فيه من الاحتقار الكثير , يصرخ : زيااااد ! إذبح أحد الخراف , و اسلخه , و قسمه إلى أربع قطع ... هيا تحرك , ألا تسمعُ يا أصم !
أنا : حاضر يا معلّمي !
أمسكُ السكينَ بيدِي اليسرى , و بحركةٍ سريعة أحرمُ الخاروفَ أنفاسه , و هو يتخبط أمامي يمنة و يسرى و صوته يتحشرجُ في حنجرته , و الدم الساخنُ يسيل من أوداجهِ , بهِ قطعٌ متخثرةٌ من دم , مثل دمي الذي يسيل في أوداجي , به قطعٌ متخثرةٌ من قهر . أنا وذاكَ الحيوان سواء , و المعلمُ يراهُ أحسنَ مني ! صدقَ المعلم هوَ في مرتبةٍ أعلى ؛ فكلّ ما ذبحتُ حيوانـًا وجدتُ قدميه تعلو رأسي و أنا أنظر إليه من أسفل ! أسلخُ الحيوان الأحسن مني و أعريه من جلده , ينتظر لحمه الكثيرون هذا اليوم ليزيدهم تخمة فوقَ تخمتهم . أفكر بمصير كومةِ اللحمِ هذه , كم سَتشبِعُ من الناسِ اليومَ على موائدِ الغداء ؟! كثيرون ! أما أنا بالكاد أشبعُ نفسي و أمي . زياد ! أرأيت ؛ الحيوان أحسنَ منك . يا ربي إنكَ كرّمتَ بني آدم , و حملتهم في البرِّ و البحر و رزقتهم من الطيبات . و لكن بني آدم أهانوا إخوتهم , و حقّروهم , و رموا إليهم فتاتًا لا يعدّ من الطيبات !
أقطعُ اللحم بيدي اليسرى المحمرّة من كثرة ما تمسكُ السكين و تستخدمها , هي متورّمة جدًا من العمل , نحن في بدايةِ الشهر و قد قبض الجميع رواتبهم , و جاؤوا يتزاحمون على ملحمةِ المعلم , و أنا أذبحُ و أسلخُ و أقطعُ لهم لسبع ِ ساعاتٍ أو أكثر , و ليسراي كامل الحق أن تحمرّ بعدها , و ترتعش وجعًا . إنهم يشترون لذة اللحم بأوجاع البائسين !
(5)
أعودُ في المساءِ حاملاً همومي على كتفي , و قد تقوّس ظهري من كثرةِ تركمها فوقي . من يراني لا يصدّق أبدًا أنني صرتُ ألهثُ عند العتبةِ الثامنة عشرة من العمر ! لا أقتنعُ أبدًا بفكرةٍ قياسِ العمر من يوم ميلادنا ؛ أجد القياس بهذهِ الطريقة غير عادلٍ أبدًا , و أنا مقتنع تمامًا باستخدام مقياس الهموم لتحديدِ أعمارنا , عندها سأجدُ المعلمَ لأوّل مرةٍ عادلا ً معي , حينَ يقتنعُ أني قد بلغتُ الخمسينَ حقًا من الهموم ! و هو ما زال في صباه الرابع عشر لاهيًا عابثًا لا يكترثُ إلا لأقربِ طريقٍ توصله إلى كسب أكبر قدر من المال.
اِسمه ( وَديع ) . غريب أن يحمل بخيلٌ قاس ٍ مثله هذا الإسم , من يعرفهُ من الداخل يقسمُ على أنه لا يعرف الوداعة أبدًا , إلا حينما يتعلقُ الأمر برزم المال , تجدهُ لطيفًا لدرجةٍ أنكَ تستحي الحديثَ معه . كثيرًا ما أنظرُ إلى عينيهِ حينما تمتدُ بنظرةٍ حاسدةٍ إلى محفظةِ أحدِ الزبائن , و كلّهُ منى لو أخطأ الزبونُ في ثمنَ الكيلو , و أضافَ صفرًا زيادةً في أقصى يسار الثمن ؛ فيتضاعفُ المبلغ الذي يجنيه عشر مرات . أحدُ الغرباءِ أخطأ مرّة بخمسةِ قروشِ زائدة , فابتهجَ البخيلُ لها أسبوعًا كاملا ً , و كادَ من شدّة فرحهِ أن يحرمني أجرَ ذلكَ الأسبوع !
(6)
أصل إلى البيت و أنا أقلّب في رأسي كلّ تلكَ الخلجاتِ عن وديع , أبتسم ابتسامتي الباهتة و الوحيدة في اليوم حينما أرى أمي , و في نفسِ اللحظةِ أتعوذ بالله من وديع , و أدعه في الخارج في نفسِ المكانِ الذي خلعتُ بهِ حذائي , و أتضايقُ لأني أهينُ الحذاء بهذا , و لكني سرعان ما أرتاح حينما أتـأكدُ أن حذائي خلال طريقِ العودة قد امتلأ بالطين و الوسخ . سيكون غطاءً جيّدًا لابقاءِ حذائي نظيفًا من وديع ! تستقبلني أمي بابتسامة , و بقبلة , و بخبر سار , أهدتنا جارتنا شيئًا من الجبن ! أمي ستحتفلُ الليلةَ بوليمةٍ عظيمة , فالليلةُ عشاؤنا أربعةُ أصناف : خبزٌ و لبنٌ و جبنٌ و شاي . ما أضيقَ أحلامنا نحن البائسين ! ما أحقر البشر الذينَ نعملُ عندهم , و لهم , و إليهم ! و ما أحقر المساحةَ الموهوبةَ لنا من الحياة ! و ما أحقرنا في تلكَ المساحة !
بعد العشاءِ أستأذن أمي للنوم , ثمّ أتجّه نحوَ غرفتي و أرتمي في سريري بنفسِ تلكَ الأفكار عن الحقارة , و أفكارٍ أكثرَ سخطًا , و أفكارٍ أخرى تتخبط في رأسي معلنة ً عن تمرّدٍ ما زالاً سِريًا , سرعان ما يقتله خوفٌ سريٌ و كلمة : الحمد لله ! و عندَ تلكَ الكلمةِ بالذات تغيب عينيّ خلفَ رمشين مكحلّين بالإرهاق و التعب , و الأفكار . انطبقتْ رموشي تمامًا على بعضها , و عندَ أوّل نفس ٍ أخذته ارتدّت على وقع ِ سؤال ٍ غريب : أينَ هيَ (مَطَرْ) ؟! ثمّ يصرخُ تعجّبٌ آخر : أنا لا أتقنُ الرسم !!
أفتحُ عينيّ بأوسع ِ ما يمكن , و أشهقُ من منظرِ السقف ! و تنتابني صاعقةٌ من الإنبهار , تصعقني بسرعة هائلة لا يتمكن جسدي معها من الارتعاش , فقد تصلّب تمامًا ! نافذة ٌ مربّعةٌ أمامي ! يتسلل منها شعاع قمر ! و خمسُ قطراتِ مطرٍ على خمسٍ أصابع , تلمع كما النجوم ! و يدي اليسرى محمرّة تمامًا كجورية ! ليلة البارحة كنتُ أظنّه حلمًا أو هاجسًا! لكنني الآن أشعرُ بهِ تمامًا كأنه واقع ! ينتابني خوفٌ شديدٌ فأستسلم للقوةِ الأكبرِ مني , و أموتُ نومًا .
ابتعدي أيتها القطرات الخمس , تلاشي أيتها النافذة المربّعة , انطفئي أيتها النجوم , و تمزّقي أيتها الجورية . لا أريد النور , أكرهه كثيرًا , لا أريدُ أن أكون رسامًا , أكره الألوان , ليتَ الدنيا كانت بلونين أبيض و أسود و من دون تدرّجات , لونين فقط . أنا لستُ سوى لحّام ٍ ! أتفهمُ أيها النور ! لستُ سوى لحّام ٍ يعيشُ على هامش ِ الحياة , و قد رضيَ بذلك . أديرُ وجهي للنور , و أدفن رأسي في وسادتي , و أنا أصرخ : ابتعد ! ابتعد ! لا أريدكَ أيها النور .
(7)
حربٌ تقومُ في السماء , بعدَ الفجر , بين السماءِ و نفسها , بينَ الليل و النهار , ينهار الليل بسرعة , و تهرب نجومهُ بتلاحقٍ سريع , ليحلّ مكانه جيشٌ من النور . في نفسي صراعٌ مشابه , أشعرُ باقترابِ النورِ لكني أدفعهُ عني بقوةِ , أكره أن أخرجَ للنور , أنا كما خفاشٌ خلقُ ليعيشَ في كهوفٍ حالكة الظلمة , و ليتناسلَ فيها , و ليموتَ فيها أيضًا . الآن بالذات أحسدُ الوجهَ الآخر للقمرِ , فهو لم يرى خيطًا من خيوطِ شعاعِ الشمس , و لا رأى وجهها , أحسده من كل قلبي , و أتمنى أن تزولَ النعمةُ عنه وَ أحصل عليها .
استيقظتُ الآن و لا أريد أن أفتحَ عينيّ , فحدسي يخبرني أنّ هناكَ أربع مئة صفحة تبعد عن رأسي مسافة قدم ٍ لا أكثر , هناكَ في نهايةِ القدم أوراقٌ خيّرة , تلدُ للحياةِ حياةَ جديدة , لا بأس أن تُولدَ الحياة , لكن من أيِّ مكان ٍ آخر لا ينتمي لزياد . حسنًا , سألقي نظرةً خاطفة إلى مكتبي , ثم سأتحرّك بحركةٍ سريعةٍ و أقف أمامَ (شمس الأحزان) , و سأمزّقها . و بحركةٍ مباغتة , نفذتها حتى قبل أن أفتحَ عينيّ , وقفت أمام المكتب , و أمامي الأربع مئة حُرقة , أمسكتها بقوة و حاولتُ تمزيقها بأقصى قوتي . أفلتت من يدي الرواية دون أن أمزّق منها حُرقةً واحدة . جراءِ تلكَ الحركةِ العنيفةِ انتقلتْ الحُرقاتُ كلها ليديّ , أربعُ مئةٍ حرقةٍ بالضبط تركت أثارها .
لم أكن أهذي طوال الليل بالرسم , و لم أكنُ أعيشُ الكتابةَ حالَ حلمِ يقظةٍ في بواكيرِ الأصيل , كانَ واقعًا صادقًا ربما أكثرَ من واقعي , و لكني ألفظهُ من أفكاري , و أطرده , من دون سببٍ محددّ . ليسَ للحّام ٍ مثلي أن يكونَ رسامًا عالميًا , و لا كاتبًا مشهورًا , تكفيني ملحمة وديع لأمضي فيها ما تبقى من حياتي .
(8)
يبدأ المستحيلُ باعتناق ِ أفكارنا , و من ثمّ زحزحتها يمنة ً و يسرى , حتى تقف في طريق ٍ واحدةٍ مستقيمةٍ ممتدة , ثم يمرّ عليها دفعةً واحدةً كجرار ضخمٍ فيحطمها و يسويها بالأرض , ليبني أفكارًا و معتقداتٍ أخرى فوق ذاك الحطام . في لحظةِ الحطامِ تلكَ نرفضُ المستحيل , و نحاول لفظه دفعة واحدة , بنفس تلكَ السرعة التي يلفضُ فيها ابنُ الخامسةِ و العشرين هاجس الموتِ في جلسةٍ شاطئيّة مع عروسهِ . لكن المستحيل كما الموتِ تمامًا ؛ حينما يقررّ , لا رادَ لقراره .
مرّت ثلاثُ ليال ٍ و المستحيل يحطمُ أفكاري تحت العجلاتِ الضخمةِ لجراره , و يسويها بالأرض , تمهيدًا لبناء أفكاري بالحجم و بالشكل و بالتصميم الذي يريد . أحاول تهريب فكرة أو فكرتين من الأفكار خاصتي بعيدًا عن القدرة الهائلة لجرار المستحيل , و أنى لي أن أهرّبها و قد رُبطتْ قدرة المستحيل بقدرة الموت , لتمتلكَ كلّ منهما خصائص الأخرى , و من خصائص الموتِ أنه حينَ ينهي الأفكار , ينهيها دفعةً واحدة , و من ثمّ يمضي دون أن يلتفتْ .
كانَ المستحيلُ معي قاسيًا ؛ كذاكَ الموت الذي يطرقُ باب كهلٍ في الستين , و يقترب منه زحفًا , حتى إذا اقتربَ منهُ كثيرًا و لاصقه , امتصّ الحياة من أطراف أقدامه ببطءٍ شديد , و المسكينُ يأنّ و هو يستشعرُ صفوفَ خلاياه و هي تنهار الواحد تلوَ الآخر . أمنيته في تلكَ اللحظة أن ينتزعهُ الموتُ من قبضةِ الحياة دفعةً واحدة , و أنا أمنيتي أن أنتزعَ المستحيل من حياتي , و لو على دفعاتٍ تطول . لا أريد أن تتحقق المعجزة العظيمة في زياد .
(9)
أفكارٌ خبيثةُ تترصدني كما ذلك المرضُ اللعين المسمى باسمِ حيوان ٍ بحريّ . من عادة ذلكَ الحيوان أن يختبئ في رمل الشاطئ , فإن أخطأ شخصٌ ما موضعَ قدمهِ و دهسه , هاجمهُ فورًا بكلابيه القاطعين و نهشَ من لحمه . و كذا مرض السرطان , يأتي فجأة , و ينهش بعمق جسدك , و يخبركَ أنه لم يتبقَ من حياتكَ على أحسن تقدير سوى شهرٍ أو شهرين , و كذا أفكاري الخبيثة ! أن أكونَ لحامًا وضيعًا و في حالِ ليلةٍ أنام على هاجس ٍ الرسم العالميّ , و من أثمّ أصحو على سرابِ الرّوياتِ الشهيرة , لأصبحُ ذلكَ الحلم الأسطوريّ الذي يتحقق بمجرّد المرور على الخاطر . هذا هراء ! و نحن بحاجة إلى حكمة للتعامل مع هراء كهذا ؛ لنفنّده ثمّ ننهيه تمامًا .
جرّارُ المستحيلِ مهدَ أفكاري تمامًا تحت عجلاته , طبقاتٌ كثيرةٌ متراصة , هي معتقداتُ و أفكارُ و مسلّماتُ ثمانية عشر سنةٍ خلت , و هي الآن لا شيءَ يذكر , أنا تحتَ رحمةِ ذلكَ الجرار . ما سيقرره الليلة سيكون . و ليسَ لي سوى التسليم و الرضوخ !
هذهِ الليلة أصابتني نوباتُ صراخِ و هذيان في منتصفِ النوم , أوقظتْ كلّ خلايا الذعر في جسد أمي , و حرّكتْ على لسانها كلّ الابتهالاتِ التي علمتها اياها المصائب . حال أمي مُبكية , و هي تنظر إليّ بعين ِ الشفقة , و أنا أنظر إليها بعين ٍ أخرى للشفقة . أمي تبذلُ جهدها لتعرف ما يصيبني , لتردعه عني , و تحميني منه , هي التي تعرف في صغيرها ذلكَ الطفل الهادئِ جدًا , و الصامتِ جدًا . منذ وعيتُ على الدنيا , و أنا أأتمر بأمر الناس , و أنتهي بنهيهم , و أنفّذ ما يقولون حرفيـًا . لم أعتد أن أكونَ مستقلا ً أو صاحب قرارِ أو قائدًا ذي تأثير . كنتُ ذلكَ الخاتم الذي تتبادله الأصابع . و في الحالةِ التي تمرّ بنا , الأمرُ أكبرَ مني و من أمي . إنّه إصبعُ القدر يحرّكُ الخاتم !
(10)
لم أتجه إلى ملحمة وديع هذا الصباح . أنا أغيبُ عن العملِ لأول مرّةٍ منذ ثلاث سنوات , هي المدة التي تفصلني عن يوم ِ استلامي لشهادة المرحلة المتوسطة , و أيضًا اِستلامي لسكين وديع , و اليومَ , و بعد ثلاثِ سنواتٍ أجدني أباعدُ ما بين أصابعي الخمس و راحتي ؛ لتسقط سكينه , و لآخذ بنفس الأصابع ريشة َ الرسم , و أمامي مساحةُ شاسعةُ البياض .
قُبالةَ وجهٍ نوراني ٍ أبيض لم يخطّ الزمنُ تجاعيده فيهِ بعد, و لم يمسّه بأدنى جرح ٍ أو خدش . من يشعر مثلي بالعجز الهائل أمام غوايتها البيضاء ؟! من يرفعني من حظيظِ معيشتي إلى سماءِ عينيها لأرسم ؟! من يملكُ منَ الألوان ِ ما يمنحُ لحامًا حقيرًا عينَ رضاها ليخطَ جنونه في مساحاتها كلها ؟! في حضرتها الكلام المباحُ حرام . ما في حضرتها غيرُ الصمتِ و التأمل , و علبةِ الألوان .
تمتدُ يُسرايَ إليها راجفة , و في أطرافِ أناملها فرشاةُ ناعمةُ في طرفها لونٌ أصفر , و اللوحةُ أمامي طفلةُ جائعة عاجزة , تتكلم بابتسامةٍ و في كلامها لثغة ُ الأطفال . أندمجُ بسرعةٍ مع الألوان , أنتقيها بعنايةٍ , و أمزجها بحذر , أغمقُ ذلكَ اللون و أزيد ذلكَ اللوانَ إشراقًا . و غُلبَ البياض على أمرهِ في بضع ِ ساعات . و نفثتُ النفسَ الأخير من فمي إلى أقاصي اللوحة , و تركتها هكذا بدونِ توقيعٍ ليوقّعَ السيد (المستحيل) لوحة (مَطر) فهوَ راسمها .
في الحقيقة , لم أرسم خطًا واحدًا في تلكَ اللوحةِ البيضاء ! كانت اللوحة أمامي حقًا و مزجتُ الألوان , و حركتُ الفرشاةَ بيدي أمام اللوحة , لكني كنتُ حذرًا جدًا أثناءَ تحريكِها , فقد تركتُ مسافةِ مليمتر واحدٍ بينها و بين البياض , في محاولةٍ أخيرةٍ يائسة لخداع المستحيل و الكذب عليه . و أنَّى لصعلوكٍ مثلي أن يخدعَ جبارًا مثله ! لقد كان يقبعُ في ذلكَ المليمتر الوحيد , واضعًا لوحتهُ الشفافة التي احتفظتْ بكلّ حركةٍ للفرشاةِ على أديمها , و في النهاية و تمامًا عندَ ذلكَ النفسِ الأخير الذي بعثته إلى أقاصى البيضاءِ معلنًا عن انتهاءِ رسمتي , سحبَ لوحتهُ الملوّنة , و تأمّل (مَطر) لدقيقتين طويلتين , ثم عقّب بصوتٍ عميق : جَمِيلْ !
كُنت أمكر بهِ لكن المكرَ حاقَ بي , و هزمني المستحيل باحترافية , أو هزمته , لا أدري , المهم أن النتيجةِ النهائيّة و الوحيدة للمعركة كانتْ (مَطَرْ) .
(11)
ما الذي يجعلُ مني ذلكَ الكائنَ الهلامي الذي يخافُ ضوءَ الشمس , و يختبئ منه خلفَ أقربِ حجر ؟! لماذا أخفي الرسم في أقاصي روحي و أدفنهُ هناك حيًا ؟! بلّ , ما ذاكَ الشيءُ الذي يسكن أقاصي الروح و ينتظر ولادةً قيصريّةً عسيرة منذُ أيام ؟! ما الذي يجعلني أرتعش عندما يتعلقُ الأمر بالظهور للعلن و النجومية ؟! أهوَ طبعٌ مزروع ؟! أهو الرضى بهامش الحياة ؟! أهو خوفٌ سريٌ من القادم ؟! أهي القناعة بالحال و التسليم المطلق ؟! لا بدّ من قرعِ أبوابِ الذاكرة !
ذاكرتي مهجورة ؛ لم أتعود قرعَ أبوابها , هي كقصرٍ مهيب , تهمُّ بالولوج ِ إليه , لكن حينما ترى بوابته المترفة , ينتابكَ وقارُ المكان ثمّ تتراجع عن قرارك باقتحامهِ , لأنكَ دون مستوى القصور ثيابًا . و لأوّل مرة ولجت القصر بنفسِ الثياب التي كنت أخجل من الولوجِ فيها , و رحتُ أركض في فنائهِ بسرعة , بدون أن أكترث للأشياء الكثيرة التي أصطدمُ فيها فتسقط و تتحطّم . لم يوقفني عن الركض سوى لهاثٍ شديد أمام سراديب القصر المغلقة , أو بالأحرى سراديب الذاكرة . وقفتُ إجلالاً أمام ذاكرتي العميقة المجرّدة من كل شيءٍ إلا من حقيقتها , أول مرّة نتقابل منذ كانت حاضري , و ها هيَ الأسَفارُ الثمانيةُ عشرةَ أمامي , فيها كلُّ تفاصيلِ حياتي . اخترتُ منها و بدون تفكير , و بحركة فطرية , ذلكَ السِّفر الثاني عشر .
فتحتُ السِّفر , و تلاحقتْ أمام عينيّ مشاهدُ لطفل ٍ بينَ أطفال يتراكضون في ساحةٍ اللعب , و يتلاحقون بحركاتٍ عشوائية مدروسة خلفَ كرةِ القدم , يمررونها هنا و هناك بين أقدامهم الصغيرة , لهم هدف واحد من عشوائيتهم تلك , يستحوذ على تفكيرهم ؛ هدفهم هوَ المرمى ! و لم يغير فكرهم ذاكَ إلا قرعُ الجرس صارخًا بهم أن وقتَ المرحِ اِنتهى . ظهرتْ بعدها أمامي مشاهدُ مشوّشةٌ و سريعة متلاحقة , ثم وجدتُ نفسي في قاعةِ الرسم , و بينَ يديّ رسماتي , و فوقَ رأسي معلمُ الرسم.
أحسستُ بأنفاسه قريبة جدًا مني , و سمعتُ جيدًا صوتَ شهيقهِ المكتوم , ثم زفيره الحاد النزق المنزعج . ألتفتُ إليه و رأيتُ في عينهِ تكبرًا عظيمًا أرهبني , و أربكني كثيرًا , كان ينظر إلى رسمتي المفضلة التي أبهرت جميعَ رفاقي , و بصوتٍ كلّه عجرفة قال : رائحتكَ مقرفة يا زياد ! و رسمكَ مقرفٌ مثل رائحتكَ تمامًا . انهرتُ على وقع ِ كلماته و أجبته ببراءةِ طفل ٍ في السابعة : كنت ألعب كرة القدم في الحرّ .
رميتُ السّفرَ من يدي , و تركتُ كلّ الأشياءِ على فوضاها , و خرجتُ من سراديب الذاكرة , و صرختُ بقوةٍ و عنف , و بكيتُ بمرارةِ شديدةٍ و حرقة , و دموعي تتناثر فوقَ يديّ كأسيدٍ حارقٍ من الأسى . إذًا كنتُ رسامًا في صغري , كنتُ رسامًا موهوبًا جدًا , و بكلمةٍ لا مبالية من متعجرفٍ , وُأدتْ موهبتي في أوج ِ تفتّحها . أنا منهار جدًا الآن , أنهكتني تلكَ الحقيقة حدّ التمزّق .
عمليّةٌ نبش الذاكرة مثلُ نبش القبور تمامًا ؛ عمليّة نزيلُ فيها تلكَ الأتربةِ المتراكمة في سنين , لنحصل على نتائج مفزعة في دقائق !
(12)
إذًا هيَ عُقدة الخوفِ من الإهانة و التقريعِ من كانَ يحبسني عن الخروجِ أمامَ النور كما أنا , و هي من كانت تربّيني على اعتيادِ ذلكَ الروتين الرتيب الممل جدًا , و تجعلني أرضى بعيش ٍ حقيرٍ في هامش الحياة . كانت عقدة قويّة جدًا , بحاجةِ إلى أصابعٍ قويّةٍ لفكّها , كأصابع الموت , أو أصابعِ المستحيل , هما الوحيدانِ القادرانِ على ذلك , و غيرهما قوى صُغرى تتلاشى أمامَ جبروتِ العقد .
حتميّة ُ أحدِ المصيرين , أن أكونَ رسامًا عظيمًا أو لا أكونَ إلا لحامًا حقيرًا , جعلت مني قائدًا لأوّل مرة على نفسي و موجّهًا لها . وُضعتُ في اِختبارٍ مصيريّ أمام خيارين لا ثالثَ لهما للمعيشةِ التي أرضى لزياد . أول ما طرأ على بالي هو أني كنت ظالمًا للمستحيل حينَ هاجمتهُ بوحشيّة , لقدَ كانَ طيبًا جدًا معي , و حاولُ بكلّ ما أوتي من مقدراتٍ أن ينتشلني من كومةِ البؤس , و ينصبني ملكًا جليلاً على أحدِ منابرِ النور . لم أفهمهُ جيدًا في البداية فقدَ كان غامضًا جدًا في تصرّفاته , و لا يبررها أبدًا . لقدَ صنعَ معي جميلاً لا يُنسى , و سأرّد جميله , و بلغةٍ أكثرِ واقعيّةٍ سأكمل جميله لنفسي , و أخرجُ للنورِ رجلا ً يحبّ الحياة .
لستُ رسامًا و حسب بالفطرةِ , بل أنا بها كاتبٌ أيضًا , سأمرّغ بياضَ الورقِ بالكلمات , و سأكتب نفسي على حرّيتها , كما ترغبُ أن تكون , وسأبدأ بالكتابةِ :
(ها هو اللّيل يغمرني بهدوءٍ رهيف , تنتابهُ بينَ فينةٍ و أخرى أصداءُ أصواتٍ بعيدة. تمزّقُ أستارَ الصمتِ ؛ ثمّ و بسرعةٍ تخيطهـا . أتقلّب في مهجع ِ ما بعدَ منتصفِ الليل و وجعٌ متحرّكٌ في يدي اليسرى ينبضُ في أطرافها رعشاتِ نشوة ... )
أغلقتُ دفتري , لقد كتبتُ كثيرًا , و تأخّر الوقت . سأخلدُ للنوم , و في الغد سأستيقظُ باكرًا , و سأرسمُ (مَطَرْ) , و سأعلنُ ميلادها للدنيا عندَ الظهيرة .
( النهاية )
سموّ الغامض
24 / 2 / 2011