فيما يعتصم به العبد من الشيطانويستدفع به شره ويحترز به منه
ولذلك عشرة أسباب:
ـ أحدها الاستعاذة بالله منه. قال تعالى: {وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم} (سورة فصلت الآية 36) وفي موضع آخر: {إنه سميع عليم} (سورة الأعراف الآية 200) وقد تقدم أن السمع المراد به هاهنا سمع الإجابة لا مجرد السمع العام.
وتأمل سر القرآن كيف أكد الوصف بالسميع العليم بذكر صيغة هو الدال على تأكيد النسبة واختصاصها، وعرف الوصف بالألف واللام في سورة {حم} لاقتضاء المقام لهذا التأكيد، وتركه في سورة الأعراف لاستغناء المقام عنه، فإن الأمر بالاستعاذة في سورة {حم} وقد بعد الأمر بأشق الأشياء على النفس وهو مقابلة إساءة المسيء بالإحسان إليه، وهذا أمر لا يقدر عليه إلا الصابرون {وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم} (سورة فصلت الآية 35) كما قال الله تعالى.
والشيطان لا يدع العبد يفعل هذا بل يريه أن هذا ذل وعجز، ويسلط عليه عدوه فيدعوه إلى الانتقام ويزينه له، فإن عجز عنه دعاه إلى الإعراض عنه، وأن لا يسيء إليه ولا يحسن، فلا يؤثر الإحسان إلى المسيء إلا من خالفه وآثر الله وما عنده على حظه العاجل، فكان المقام مقام تأكيد وتحريض فقال فيه: {وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم} (سورة فصلت الآية 36) وأما في سورة الأعراف فإنه أمره أن يعرض عن الجاهلين، وليس فيها الأمر بمقابلة إساءتهم بالإحسان، بل بالإعراض، وهذا سهل على النفوس غير مستعص عليها، فليس حرص الشيطان وسعيه في دفع هذا كحرصه على دفع المقابلة بالإحسان، فقال: {وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم} (سورة الأعراف الآية 200)، وقد تقدم ذكر الفرق بين هذين الموضعين وبين قوله في حم المؤمن: {فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير (سورة غافر الآية 56)ـ
وفي (صحيح البخاري) عن عدي بن ثابت، عن سليمان بن صرد، قال: «كنت جالساً مع النبي صلى الله عليه وسلّم ورجلان يستبان فأحدهما احمر وجهه وانتفخت أوداجه، فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: إني لأعلم كلمة لو قالها ذهب عنه ما يجد لو قال أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ذهب عنه ما يجد».
ـ الحرز الثاني: قراءة هاتين السورتين، فإن لهما تأثيراً عجيباً في الاستعاذة بالله من شره ودفعه والتحصن منه. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلّم : «ماتعوذ المتعوذون بمثلهما» وقد تقدم أنه كان يتعوذ بهما كل ليلة عند النوم، وأمر عقبة أن يقرأ بهما دبر كل صلاة. وتقدم قوله صلى الله عليه وسلّم : «إن من قرأهما مع سورة الإخلاص ثلاثاً حين يمسي وثلاثاً حين يصبح كفته من كل شيء».
الحرز الثالث: قراءة آية الكرسي، ففي (الصحيح) من حديث محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال: «وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلّم بحفظ زكاة رمضان، فأتى آت فجعل يحثو من الطعام، فأخذته، فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فذكر الحديث، فقال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي فإنه لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح، فقال النبي صلى الله عليه وسلّم : صدقك وهو كذوب، ذاك الشيطان». وسنذكر إن شاء الله تعالى السر الذي لأجله كان لهذه الآية العظيمة هذا التأثير العظيم في التحرز من الشيطان واعتصام قارئها بها في كلام مفرد عليها وعلى أسرارها وكنوزها بعون الله وتأييده.
ـ الحرز الرابع: قراءة سورة البقرة، ففي (الصحيح) من حديث سهل عن أبيه عبد الله عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، وإن البيت الذي تقرأ فيه البقرة لا يدخله الشيطان».
ـ الحرز الخامس: خاتمة سورة البقرة، فقد ثبت في (الصحيح) من حديث أبي مسعود الأنصاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : «من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه» وفي الترمذي عن النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «إن الله كتب كتاباً قبل أن يخلق الخلق بألفي عام، أنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة، فلا يقرآن في دار ثلاث ليال فيقربها شيطان».
ـ الحرز السادس: أول سورة حم المؤمن إلى قوله {إليه المصير} مع آية الكرسي، ففي (الترمذي) من حديث عبد الرحمن بن أبي بكر عن ابن أبي مليكة، عن زرارة بن مصعب، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : «من قرأ {حم المؤمن} إلى {إليه المصير} وآية الكرسي حين يصبح حفظ بهما حتى يمسي، ومن قرأهما حين يمسي حفظ بهما حتى يصبح» وعبد الرحمن المليكي وإن كان قد تكلم فيه من قبل حفظه، فالحديث له شواهد في قراءة آية الكرسي وهو محتمل على غرابته.
ـ الحرز السابع: لاإله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، مائة مرة، ففي (الصحيحين) من حديث سمي مولى أبي بكر، عن أبي صالح، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «من قال لاإله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيءقدير، في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل أكثر من ذلك». فهذا حرز عظيم النفع جليل الفائدة يسير سهل على من يسره الله تعالى عليه.
الحرز الثامن: وهو من انفع الحروز من الشيطان كثرة ذكر الله عز وجل، ففي (الترمذي) من حديث الحارث الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «إن الله أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات أن يعمل بها ويأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها، وأنه كاد أن يبطىء بها، فقال عيسى: إن الله امرك بخمس كلمات لتعمل بها وتأمر بني اسرائيل أن يعملوا بها، فإما أن تأمرهم وإما أن آمرهم، فقال يحيى: أخشى إن سبقتني بها أن يخسف بي أو أعذب فجمع الناس في بيت المقدس فامتلأ وقعدوا على الشرف، فقال: إن الله أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهن وآمركم أن تعملوا بهن، أولهن أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، وأن مثل من أشرك بالله كمثل رجل اشترى عبداً من خالص ماله بذهب أو ورق، فقال: هذه داري وهذا عملي فاعمل وأد إلي، فكان يعمل ويؤدي إلى غير سيده، فأيكم يرضى أن يكون عبده كذلك، وأن الله يأمركم بالصلاة فإذا صليتم فلا تلتفتوا، فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده في صلاته ما لم يلتفت. وأمركم بالصيام فإن مثل ذلك كمثل رجل في عصابة معه صرة فيها مسك، فكلهم يعجب أو يعجبه ريحها، وإن ريح الصائم أطيب عند الله من ريح المسك. وأمركم بالصدقة فإن مثل ذلك كمثل رجل أسره العدو فأوثقوا يده إلى عنقه وقدموه ليضربوا عنقه، فقال: أنا أفديه منكم بالقليل والكثير، ففدى نفسه منهم. وأمركم أن تذكروا الله، فإن مثل ذلك كمثل رجل خرج العدو في أثره سراعاً حتى أتى على حصن حصين، فأحرز نفسه منهم، كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله، قال النبي صلى الله عليه وسلّم وأنا آمركم بخمس، الله أمرني بهن: السمع والطاعة، والجهاد، والهجرة، والجماعة، فإن من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه، إلا أن يراجع، ومن ادعى دعوى الجاهلية فإنه من حثاء جهنم، فقال رجل: يارسول الله وإن صلى وصام؟ قال: وإن صلى وصام فادعوا بدعوى الله الذي سماكم المسلمين المؤمنين عباد الله». قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب صحيح.
وقال البخاري: الحارث الأشعري له صحبة وله غير هذا الحديث. فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلّم في هذا الحديث أن العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله، وهذا بعينه هو الذي دلت عليه سورة {قل أعوذ برب الناس} فإنه وصف الشيطان فيها بأنه الخناس، والخناس الذي إذا ذكر العبد الله انخنس وتجمع وانقبض، وإذا غفل عن ذكر الله التقم القلب وألقى إليه الوساوس التي هي مبادىء الشر كله، فما أحرز العبد نفسه من الشيطان بمثل ذكر الله عزوجل.
الحرز التاسع: الوضوء والصلاة، وهذا من أعظم ما يتحرز به منه ولا سيما عند ثوران قوة الغضب والشهوة، فإنها نار تغلي في قلب ابن آدم كما في (الترمذي) من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «ألا وإن الغضب جمرة في قلب ابن آدم أما رأيتم إلى حمرة عينيه وانتفاخ أوداجه، فمن أحس بشيء من ذلك فليلصق بالأرض». وفي أثر آخر: «إن الشيطان خلق من نار، وإنما تطفأ النار بالماء» فما أطفأ العبد جمرة الغضب والشهوة بمثل الوضوء والصلاة، فإنها نار والوضوء يطفئها، والصلاة إذا وقعت بخشوعها والإقبال فيها على الله أذهبت أثر ذلك كله، وهذا أمر تجربته تغني عن إقامة الدليل عليه.
ـ الحرز العاشر: إمساك فضول النظر والكلام والطعام ومخالطة الناس، فإن الشيطان إنما يتسلط على ابن آدم وينال منه غرضه من هذه الأبواب الأربعة، فإن فضول النظر يدعو إلى الاستحسان ووقوع صورة المنظور إليه في القلب والاشتغال به، والفكرة في الظفر به، فمبدأ الفتنة من فضول النظر كما في (المسند) عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «النظرة سهم مسموم من سهام إبليس، فمن غض بصره لله أورثه الله حلاوة يجدها في قلبه إلى يوم يلقاه» أو كما قال صلى الله عليه وسلّم ، فالحوادث العظام إنما جعلها من فضول النظر، فكم نظرة أعقبت حسرات لا حسرة، كما قال الشاعر: كل الحـوادث مبـداها من النـظـر
يتبع