ومعظم النار من مستصغر الشـرر
كم نظـرة فتكـت في قلـب صاحبها
فتـك السـهـام بلا قـوس ولاوتـر
وقال الآخر:
وكـنت متى أرسـلت طرفـك رائداً
لقلبـك يومـاً أتعبتـك المنـاظـر
رأيـت الـذي لا كلـه أنـت قـادر
عليـه ولا عـن بعضـه أنـت صابـر
وقال المتنبي:
وأنا الذي جلب المنية طرفه
فمن المطالب والقتيل القاتل
ولي من أبيات:
يارامياً بسهام اللحظ مجتهداً
أنت القتيل بما ترمي فلا تصب
وباعث الطرف يرتاد الشفاء له
توقّه أنه يرتد بالعطب
ترجو الشفاء بأحداق بها مرض
فهل سمعت ببرء جاء من عطب
ومفنياً نفسه في أثر أقبحهم
وصفا للطخ جمال فيه مستلب
وواهباً عمره من مثل ذا سفها
لو كنت تعرف قدر العمر لم تهب
وبائعاً طيب عيش ماله خطر
بطيف عيش من الآلام منتهب
غـبـنـت والله غبنـاً فاحشـاً فـلـو اسـ
ـترجعت ذا العقد لم تغبن ولم تخـب
ووارداً صفو عيش كله كدر
أمامك الورد صفواً ليس بالكذب
وحاطب الليل في الظلماء منتصباً
لكل داهية تدنو من العطب
شاب الصبا والتصابي بعد لم يشب
وضاع وقتك بين اللهو واللعب
وشمس عمرك قد حان الغروب لها
والضي في الأفق الشرقي لم يغب
وفاز بالوصل من قد فاز وانقشعت
عن أفقه ظلمات الليل والسحب
كـم ذا التخـلـف والدنيا قد ارتحـلـت
ورسـل ربك قد وافتـك في الطـلـب
ما في الديار وقد سارت ركائب من
تهواه للصب من سكنى ولا أرب
فأفـرش الخـد ذيـاك التـراب وقـل
ما قاله صـاحـب الأشواق في الحقب
ماربع مية محفوفاً يطوف به
غيلان أشهى له من ربعك الخرب
ولا الخدود وإن أدمين من ضرج
أشهى إلى ناظري من خدك الترب
منازلاً كان يهواها ويألفها
أيام كان منال الوصل عن كثب
فكلما جليت تلك الربوع له
يهوي إليها هوي الماء في صبب
أحيا له الشوق تذكار العهود بها
فلو دعا القلب للسلوان لم يجب
هذا وكم منـزل في الأرض يألفـه
وماله في سـواها الدهر من رغب
ما في الخيام أخو وجد يريحك إن
بثثته بعض شأن الحب فاغترب
وأسر في غمرات الليل مهتدياً
بنفحة الطيب لا بالنار والحطب
وعـاد كل أخي جبن ومعجزة
وحارب النفس لا تلقيك في الحرب
وخذ لنفسك نوراً تستضيء به
يوم اقتسام الورى الأنوار بالرتب
فالجسـر ذو ظلمـات ليـس يقطعـه
إلا بنـور ينجـي العبـد في الكـرب
والمقصود أن فضول النظر أصل البلاء، وأما فضول الكلام فإنها تفتح للعبد أبواباً من الشر كلها مداخل للشيطان، فإمساك فضول الكلام يسد عنه تلك الأبواب كلها، وكم من حرب جرتها كلمة واحدة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلّم لمعاذ: «وهل يكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم» وفي (الترمذي) أن رجلاً من الأنصار توفي فقال بعض الصحابة: طوبى له، فقال النبي صلى الله عليه وسلّم : «فما يدريك فلعله تكلم بما لا يعنيه أو بخل بما لا ينقصه».
وأكثر المعاصي إنما تولدها عن فضول الكلام والنظر، وهما اوسع مداخل الشيطان، فإن جارحتيهما لا يملان ولا يسأمان، بخلاف شهوة البطن فإنه إذا امتلأ لم يبق فيه إرادة للطعام، وأما العين واللسان فلو تركا لم يفترا من النظر والكلام، فجنايتهما متسعة الأطراف كثيرة الشعب عظيمة الآفات وكان السلف يحذرون من فضول النظر كما يحذرون من فضول الكلام، وكانوا يقولون: ما شيء أحوج إلى طول السجن من اللسان....
بدائع الفوائد
فصل فيما يقوله ويفعله من ابتلي بالوسواس، وما يستعين به على الوسوسة :
روى صالح بن كيسان، عن عبـيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن ابن مسعود يرفعه: «إن للملك الموكل بقلب ابن آدم لمّةً، وللشيطان لمةً، فلمة الملك إيعادٌ بالخير، وتصديقٌ بالحق، ورجاء صالح ثوابه. ولمة الشيطان، إيعادٌ بالشر، وتكذيبٌ بالحق، وقنوطٌ من الخير، فإذا وجدتم لمة الملك، فاحمدوا الله، وسلوه من فضله، وإذا وجدتم لمة الشيطان، فاستعيذوا بالله واستغفروه».
وقال له عثمان بن أبـي العاص: يا رسول الله إن الشيطان قد حال بـيني وبـين صلاتي وقراءتي، قال: «ذاك شيطانٌ يقال له: خنزبٌ، فإذا أحسسته، فتعوذ بالله منه، واتفل عن يسارك ثلاثاً».
وشكى إليه الصحابة أن أحدهم يجد في نفسه ــــ يعرض بالشيء ــــ لأن يكون حممةً أحبّ إليه من أن يتكلم به، فقال: «الله أكبر، الله أكبر، الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة».
وأرشد من بلي بشيءٍ من وسوسة التسلسل في الفاعلين، إذا قيل له: هذا الله خلق الخلق، فمن خلق الله؟ أن يقرأ: {هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيءٍ عليمٌ}.
كذلك قال ابن عباسٍ لأبـي زميل سماك بن الوليد الحنفي وقد سأله: ما شيءٌ أجده في صدري، قال: ما هو؟ قال: قلت: والله لا أتكلم به. قال: فقال لي: أشيء من شك؟ قلت: بلى، فقال لي: ما نجا من ذٰلك أحد، حتى أنزل الله عز وجل: {فإن كنت في شكَ مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك}. قال: فقال لي: فإذا وجدت في نفسك شيئاً، فقل: {هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيءٍ عليمٌ}.
يتبع