عرض مشاركة واحدة
قديم 09-10-2011, 03:58 PM   #257
الشاكر
مراقب عام


الصورة الرمزية الشاكر
الشاكر غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 29965
 تاريخ التسجيل :  03 2010
 أخر زيارة : 28-03-2023 (01:07 PM)
 المشاركات : 34,379 [ + ]
 التقييم :  253
 الدولهـ
Yemen
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Royalblue


تفسير سورة البقرة - الآية: 259

(أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير "259")
وعندما ننظر إلى بداية الآية نجدها تبدأ بـ"أو"، وما بعد "أو" يكون معطوفاً على ما قبلها، فكأن الحق يريد أن يقول لنا: أو (ألم تر) إلى مثل الذي مر على قرية. وعندما تسمع كلمة "قرية" فإنها تفيد تجمع جماعة من الناس يسكنون في مكان محدود، ونفهم أن الذي مر على هذه القرية ليس من سكانها، إنما هو قد مر عليها سياحة في رحلة. ونلحظ كذلك أن الحق سبحانه لم يشأ أن يأتي لنا باسم القرية أو باسم الذي مر عليها. قال البعض: إنه هو أرمياء بن حلقيا أو هو الخضر، أو هو عزيز، وقد قلنا من قبل: إنه إذا أبهم الحق فمعناه: لا تشخص الأمر، فيمكن لأي أحد أن يحدث معه هذا.
"أو كالذي مر على قرية". وقالوا: إنها بيت المقدس، "وهي خاوية على عروشها" وحتى نفهم معنى خاوية على عروشها، لنا أن نعرف أنني عندما أقول: "أنا خويان" أي "أنا بطني خاوية": "جوعان" فـ"خاوية" المقصود بها أنها قرية خالية من السكان، وقد تكون أبنيتها منصوبة، لكن ليس فيها سكان، والحق بقوله عن تلك القرية: إنها خاوية على عروشها، و"العرش" يطلق على البيت من الخيام، ويطلق كما نعرف على السقف، فإذا قال: "خاوية على عروشها" أي أن العرش قد سقط أولا، ثم سقطت الجدران عليه، مثلما نقول في لغتنا العامية: "جاب عاليها على واطيها".
وعندما يمر إنسان على قرية مثل هذه القرية فلابد أن مشهدها يكون شيئاً لافتا للنظر، قال: "أنى يحيي هذه الله بعد موتها" فكأنه يسأل عن القرية، وعن إماتة وإحياء الناس الذين يسكنون القرية. والحق حين يذكر القرية في القرآن فهو يقصد في بعض الأحيان الحديث عن أهلها مثل قوله تعالى:

{وسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها وإنا لصادقون "82" }
(سورة يوسف)


إن أبناء يعقوب عليه السلام حين عادوا من مصر وتركوا أخاهم الأصغر مع يوسف عليه السلام قالوا لأبيهم: أرسل من يأتيك بشهادة أهل مصر واسأل بنفسك زملاءنا الذين كانوا معنا في القافلة، وسيقولون لك: إننا قد تركنا أخانا بمصر. لكن سؤال الذي مر على القرية الخاوية على عروشها هو سؤال عن أهلها. "أنى يحيى هذه الله بعد موتها" وساعة تسمع "أنى" فهي تأتي مرة بمعنى "كيف"، ومرة تأتي بمعنى: "من أين"، والمناسب لها هنا هو أن يكون السؤال كالتالي: "كيف يحيي الله هذه بعد موتها"؟ وقوله هذا يدل على أنه مؤمن، فهو لا يشك في أن قضية الإحياء من الله، وإنما يريد أن يعرف الكيفية، فكأنه مؤمن بأن الله هو الذي يحيي ويميت، وهذه ستأتي في قصة سيدنا إبراهيم:

{أرني كيف تحيي الموتى }
(من الآية 260 سورة البقرة)


هو لا يشك في أن الله يحيي الموتى، إنما يريد أن يرى كيف تتم هذه الحكاية؛ لأن الذي يريد أن يعرف كيفية الشيء، لابد أن متعجب من وجود هذا الشيء، فيتساءل: كيف تم عمل هذا الشيء؟ مثلما نرى الأهرام، ونحن لا نشك أن الأهرام مبنية بهذا الشكل، لكننا نتساءل فقط: كيف بنوها؟ كيف نقلوا الحجارة بضخامتها لأعلى ولم يكن هناك سقالات أو روافع آلية؟ إذن فنحن نتعجب فقط، والتعجب فرع الإيمان بالحدث.
والسؤال عن الكيفية معناه التيقن من الحدث، فقول الحق: "أنى يحيي هذه الله" .. يعني: كيف يحيي الله هذه القرية بعد موتها، فكأن القائل لا يشك في أن الله يحيي، ولكنه يريد الكيفية، والكيفية ليست مناط إيمان، فالله لم ينهنا عن التعرف عن الكيفية؛ فهو يعلم أننا نؤمن بأنه قادر على إيجاد هذا الحديث.
وأضرب هذا المثل ـ ولله المثل الأعلى ـ فمصمم الملابس عندما يقوم بتفصيل أزياء جميلة، أنت تراها، فأنت تتيقن من أنه صانعها، ولكنك تتعجب فقط من دقة الصنعة، وتقول له: بالله كيف عملت هذه؟ كأنك قد عشقت الصنعة! فتشوقت إلى معرفة كيف صارت، فما بالنا بصنعة الحق تبارك وتعالى؟ إنك تندهش وتتعجب لتعيش في ظل السر السائح من الخالق في المخلوق، وتريد أن تنعم بهذه النعم.
ومثال آخر ـ ولله المثل الأعلى من قبل ومن بعد ـ أنت ترى مثلا لوحة رسمها رسام، فتقول له: بالله كيف مزجت هذه الألوان؟ أنت لا تشك في أنه قد مزج الألوان. بل تريد أن تسعد نفسك بأن تعرف كيف رسمها، إذن فقوله وقول إبراهيم بالسؤال في الإحياء والإماتة فيما يأتي ليس معناه أنه غير مؤمن بل هو عاشق ومشتاق لأن يعرف الكيفية؛ ليعيش في جو الإبداع الجمالي الذي أنشأ هذه الصنعة.
ونعلم أن إحياء الناس سيترتب عليه إحياء القرية، فالإنسان هو باعث الحركة التي تعمر الوجود، والناس لهم حياة ولهم موت، والقرية بأنقاضها وجدرانها وعروشها لها حياة ولها موت. وعندما سأل العبد هذا السؤال، أراد الله أن تكون الإجابة تجربة معاشة في ذات السائل؛ لذلك يأتي القرآن بالقول "فأماته الله مائة عام". إن صاحب السؤال قد أراد أن يعرف الكيفية، وطلبه هو إيمان دليل، ليصبح فيما بعد إيمانا بواقع مشاهد "فأماته الله مائة عام" لقد جعل الله الأمر والتجربة في السائل ذاته وهذا إخبار الله. لقد أماته مائة عام، والعام هو الحول، وقد سموا "الحول" عاما؛ لأن الشمس تعوم في الفلك كله في هذه المدة، والعوم سبح، والحق يقول:

{وكل في فلك يسبحون }
(من الآية 40 سورة يس)