عرض مشاركة واحدة
قديم 13-10-2011, 05:58 AM   #332
الشاكر
مراقب عام


الصورة الرمزية الشاكر
الشاكر غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 29965
 تاريخ التسجيل :  03 2010
 أخر زيارة : 28-03-2023 (01:07 PM)
 المشاركات : 34,379 [ + ]
 التقييم :  253
 الدولهـ
Yemen
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Royalblue


تفسير سورة الرعد - الآية: 35

(مثل الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار أكلها دائم وظلها تلك عقبى الذين اتقوا وعقبى الكافرين النار "35")
والمصدر الأساسي الذي وعد المتقين بالجنة هنا هو الله، وقد بلغ عنه الرسل ـ عليهم السلام ـ هذا الوعد، وتلاهم العلماء المبلغون عن الرسل. وأنت حين تنظر إلى فعل يشيع بين عدد من المصادر، تستطيع أن تبحث عن المصدر الأساسي، والمثل هو قول الحق سبحانه:

{الله يتوفى الأنفس حين موتها .. "42"}
(سورة الزمر)


ويقول في موقع آخر من القرآن:

{قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم .. "11"}
(سورة السجدة)


وهكذا تكون التوفية قد آلت إلى الله؛ وآلت إلى ملك الموت، وقد أخذ ملك الموت مسئولية التوفية من إسناد الحق له تلك المهمة؛ ويكون نسبتها لملك الموت هو نوع من إيضاح الطرف الذي يوكل له الحق سبحانه تنفيذ المهمة. ومرة يأتي الحق سبحانه بالمصدر الأصلي الذي يصدر الأمر لملك الموت بمباشرة مهمته. وهنا في الآية الكريمة نجد قول الحق سبحانه:

{وعد المتقون .. "35"}
(سورة الرعد)


وهي مبنية لما لم يسم فاعله؛ فالوعد منه سبحانه. ونعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم يعد أيضاً، فهانحن قد جاء إلينا خبر بيعة العقبة؛ حين أخذ البيعة من الأنصار، وقالوا له: خذ لنفسك، فأخذ لنفسه ما أراد، ثم قالوا له: وماذا نأخذ نحن إن أدينا هذا؟ فقال لهم: "لكم الجنة".
وقال صلى الله عليه وسلم ذلك؛ لأن العمل الذي فعلوه؛ لا يكفيه أجراً إلا الجنة، ومن المعقول أن أي واحد من الذين حضروا العقبة قد يتعرض للموت من بعد معاهدة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلو أنه وعدهم بما في الدنيا من متاع قد يأخذه البعض فيما بعد؛ فالذي يموت قبل هذا لابد أن يدرك شيئاً مما وعد الرسول من عاهدوه؛ ولذلك أعطاهم ما لا ينفذ، وهو الوعد بالجنة.
والحق سبحانه هنا ـ في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها ـ يقول:

{مثل الجنة .. "35"}
(سورة الرعد)


أي: أنه يضرب لنا المثل فقط؛ لأن الألفاظ التي نتخاطب بها نحن قد وضعت لمعان نعرفها؛ وإذا كانت في الجنة أشياء لم ترها عين ولم تسمعها أذن، ولم تخطر على بال بشر؛ فمن الممكن أن نقول إنه لا توجد ألفاظ عندنا تؤدي معنى ما هناك، فيضرب الله الأمثال لنا بما نراه من الملذات؛ ولكن يأخذ منها المكدرات والمعكرات.
وهكذا نعرف أن هناك فارقاً بين "مثل الجنة" وبين "الجنة"، فالمثل يعطيني صورة أسمعها عن واقع لا أعلمه؛ لأن معنى التمثيل أن تلحق مجهولاً بمعلوم لتأخذ منه الحكم. مثلما تقول لصديق: أتعرف فلاناً؛ فيقول لك: "لا". فتقول له: "إنه يشبه فلاناً الذي تعرفه".
وأنت تفعل ذلك كي تشبه مجهولاً بمعلوم؛ لتأتي الصورة في ذهن سامعك. ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم شرحاً لما أجمله القرآن:

{وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين .. "71"}
(سورة الزخرف)


<ويضيف صلى الله عليه وسلم: "فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشرٍ">

وحين تدقق في هذا القول النبوي الكريم تجد الترقي كاملاً؛ فقوله: "ما لا أذن سمعت" جاء لأنه يعلم أن مدركات العين محدودة بالنسبة لما تعلم الأذن؛ لأن الأذن تسمع ما لا تدركه العين؛ فهي تسمع ما يراه غيرك بالإضافة إلى ما تراه أنت.
فالأذن تسمع القريب وتسمع البعيد وتنقل صوته وتستحضره ثم تميزه، بخلاف العين فهي محدودة المسافة حسب قوة الإبصار، ومع كل فنعيم الجنة فوق كل هذا الفوق. ثم يأتي الترقي الأكبر في قوله: "ولا خطر على قلب بشر". والخواطر أوسع من قدرة الأذن وقدرة العين؛ فالخواطر تتخيل أشياء قد تكون غير موجودة.
وهكذا نرى عجز اللغة عن أن توجد بها ألفاظ تعبر عن معنى ما هو موجود بالجنة، ولا أحد فينا يعلم ما هي الأشياء الموجودة بالجنة، ومادام أحد منا لم ير الجنة؛

<ومادام الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر">

فلابد أن نعلم قدر عجز اللغة عن التعبير عما في الجنة، فإذا أراد الله أن يعبر عما فيها؛ فهو يوضح لنا بالمثل؛ لا بالوصف، لأنه يعلم أن لغتنا تضع الألفاظ لما هو موجود في حياتنا؛ ولا توجد ألفاظ في لغتنا تؤدي معاني ما في الجنة. ولذلك قال لنا الحق سبحانه:

{مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى .. "15"}
(سورة محمد)


ومع أن الحق سبحانه يضرب مثلاً، إلا أنه خلص المثل من شوائبه التي نعرفها في الدنيا، فالمياه عندما تجري؛ تكون حلوة ورائقة وصافية؛ وإن ركدت فهي تأسن وتكون عطنة. ولذلك يوضح لنا الحق سبحانه أن المياه في الجنة غير آسنة؛ وأنها تكون أنهاراً منزوعاً من مياهها ما يكدرها.
وكذلك المثل بأنهار من لبن لم يتغير طعمه. واللبن كما نعرف هو غذاء البدو؛ فهم يحلبون الماشية، ويحتفظون بألبانها في قرب لمدة طويلة؛ فيتغير طعم اللبن؛ ولذلك يضرب لهم المثل بوجود أنهار من لبن لم يتغير طعمه.
وأيضاً يضرب المثل بوجود أنهار من عسل مصفى، والعسل ـ كما نعرف ـ كان في الأصل يأتي من النحل الذي كان يسكن الجبال قبل استئناسه؛ ووضعه في مناحل في الحدائق. والحق ـ سبحانه وتعالى ـ هو القائل:

{وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يعرشون "68"}
(سورة النحل)