عرض مشاركة واحدة
قديم 15-10-2011, 07:24 PM   #513
الشاكر
مراقب عام


الصورة الرمزية الشاكر
الشاكر غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 29965
 تاريخ التسجيل :  03 2010
 أخر زيارة : 28-03-2023 (01:07 PM)
 المشاركات : 34,379 [ + ]
 التقييم :  253
 الدولهـ
Yemen
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Royalblue


تفسير سورة النحل - الآية: 77

(ولله غيب السماوات والأرض وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب إن الله على كل شيء قدير "77")
أراد الحق سبحانه أن يعلمنا منه عالم الملك، ومنه عالم الملكوت .. عالم الملك هو العالم منه عالم الملك، ومنه عالم الملكوت .. عالم الملك هو العالم المحس لنا، وعالم الملكوت المخفي عنا فلا نراه.
ولذلك، فربنا سبحانه وتعالى لما تكرم على سيدنا إبراهيم ـ عليه السلام ـ قال:

{وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين "75"}
(سورة الأنعام)


إذن: لله تعالى في كونه ظاهر وغيب .. الظاهر له نواميس كونية يراها كل الناس، وله أشياء غيبية لا يراها أحد، ولا يطلع عليها .. حتى في ذاتك أنت أشياء غيب لا يعلمها أحد من الناس، وكذلك عند الناس أشياء غيب لا تعرفها أنت .. وهذا الغيب نسميه: غيب الإنسان.
إذن: فأنا غائب عني أشياء، وغيري غائب عنه أشياء .. هذا الغيب الذي لا نعرفه يعده بعض الناس نقصاً فينا، وهو في الحقيقة نوع من الكمال في النفس البشرية؛ لأنك إن أردت أن تعلم غيب الناس فاسمح لهم أن يعلموا غيبك.
ولو خيرت في هذه القضية لاخترت أن يحتفظ كل منكم بغيبه لا يطلع عليه أحد .. لا أعرف غيب الناس، ولا يعرفون غيبي؛ ولذلك يقولون: "المغطى مليح". فستر الغيب كمال في الكون؛ لأنه يربي ويثري الفائدة فيه .. كيف؟
هب أنك تعرف رجلاً مستقيماً كثير الحسنات، ثم اطلعت على سيئة واحدة عندما كانت مستورة، فسو فترى هذه السيئة كفيلة بأن تزهدك في كل حسناته وتكرهك فيه، وتدعوك إلى النفرة منه، فلا تستفيد منه بشيء، في حين لو سترت عنك هذه السيئة لاستطعت الانتفاع بحسناته .. وهكذا ينمي الغيب الفائدة في الكون.
وفي بعض الآثار الواردة يقول الحق سبحانه:
"يا بن آدم سترت عنك وسترت منك، فإن شئت فضحنا لك وفضحناك، وإن شئت أسبلنا عليك سبال الستر إلى يوم القيامة". فاجعل نفسك الآن المخاطب بهذا الحديث، فماذا تختار؟
أعتقد أن الجميع سيختار الستر .. فمادمت تحب الستر وتكره أن يطلع الناس على غيبك فإياك أن تتطاول لتعرف غيب الآخرين.
والغيب: هو ما غاب عن المدركات المحسة من السمع والبصر والشم والذوق، وما غاب عن العقول من الإدراكات المعنوية.
وهناك غيب وضع الله في كونه مقدمات توصل إليه وأسباباً لئلا يكون غيباً .. كالكهرباء والجاذبية وغيرها .. كانت غيباً قبل أن تكتشف .. وهكذا كل الاكتشافات والأسرار التي يكشفها لنا العلم، كانت غيباً عنا في وقت، ثم صارت مشاهدة في وقت آخر.
ذلك، لأن الحق سبحانه لا ينثر لنا كل أسرار كونه مرة واحدة، بل ينزله بقدرٍ ويكشفه لنا بحساب، فيقول سبحانه:

{وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم "21"}
(سورة الحجر)


فالذي كان غيباً في الماضي أصبح ظاهراً مشاهداً اليوم؛ لأن الله سبحانه كشف لنا أسبابه فتوصلنا إليه .. فهذا غيب جعل الله له مقدمات يصل إليها من يبحث في الكون، فإذا ما أذن الله به، وحان وقت ميلاده وفق الله أحد الباحثين إلى اكتشافه، إما عن طريق البحث، أو حتى الخطأ في المحاولة، أو عن طريق المصادفة.
ولذلك إذا بحثت في كل المخترعات والمكتشفات لوجدت 90% منها جاءت مصادفة، لم يكونوا بصدد البحث عنها أو التوصل إليها، وهذا ما نسميه "غيب الأكوان".
ومثال هذا الغيب: إذا كلفت ولدك بحل تمرين هندسي .. ومعنى حل التمرين أن يصل الولد إلى نقطة تريد أنت أن يصل إليها .. ماذا يفعل الولد؟ يأخذ ما تعطيه من معطيات، ثم يستخدم ما لديه من نظريات، وما يملكه من ذكاء ويستخرج منها المطلوب.
فالولد هنا لم يأت بجديد، بل استخدم المعطيات، وهكذا الأشياء الموجودة في الكون هي المعطيات من بحث فيها توصل إلى غيبيات الكون وأسراره. وهذا النوع من الغيب يقول عنه الحق سبحانه:

{الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء .. "255"}
(سورة البقرة)


فإذا أذن الله لهم تكشفت لهم الأسرار: إما بالبحث، وإما بالخطأ، أو حتى بالمصادفة .. فطالما حان وقت ميلاد هذا الغيب واكتشافه؛ فإن صادف بحثاً من البشر التقيا، وإلا أظهره الله لنا دون بحث ودون سعي منا.
وهناك نوع آخر من الغيب، وهو الغيب المطلق، وهو غيب عن كل البشر استأثر الله به، وليس له مقدمات وأسباب توصل إليه، كما في النوع الأول .. هذا الغيب، قال تعالى في شأنه:

{عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا "26" إلا من ارتضى من رسولٍ .. "27"}
(سورة الجن)


فإذا ما أعلمنا الرسول غيباً من الغيبيات فلا نقول: إنه يعلم الغيب .. لأنه لا يعلم إلا ما أعلمه الله من الغيب .. إذن: هذا غيب لا يدركه أحد بذاته أبداً.
ومن هذا الغيب المطلق غيب استأثر الله به، ولا يطلع عليه أحداً حتى الرسل ..

<ولما سئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن الساعة، قال: "ما المسئول عنها بأعلم من السائل">

وفي الإسراء والمعراج يحدثنا صلى الله عليه وسلم أن الله قد أعطاه ثلاثة أوعية: وعاء أمره بتبليغه وهو وعاء الرسالة، ووعاء خيره فيه فلا يعطيه إلا لأهل الاستعداد السلوكي الذين يتقبلون أسرار الله ولا تنكرها عقولهم، ووعاء منعه فهو خصوصية لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولذلك يقول راوي الحديث: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاني وعاءين، أما أحدهما فقد بثثته أي رويته وقتلته للناس، وأما الآخر فلو بحت به لقطع حلقومي هذا، فهذا من الأسرار التي يختار الرسول صلى الله عليه وسلم لها من يحفظها.
قوله تعالى:

{ولله غيب السماوات والأرض .. "77"}
(سورة النحل)


هذا يسمونه أسلوب قصر بتقديم الجار والمجرور، أي قصر غيب السماوات والأرض عليه سبحانه، فلو قلنا مثلاً: غيب السماوات والأرض لله، فيحتمل أن يقول قائل: ولغير الله، أما:

{ولله غيب السماوات والأرض .. "77"}
(سورة النحل)