عرض مشاركة واحدة
قديم 21-10-2011, 12:55 AM   #618
الشاكر
مراقب عام


الصورة الرمزية الشاكر
الشاكر غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 29965
 تاريخ التسجيل :  03 2010
 أخر زيارة : 28-03-2023 (01:07 PM)
 المشاركات : 34,379 [ + ]
 التقييم :  253
 الدولهـ
Yemen
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Royalblue


تفسير سورة الإسراء - الآية: 54

(ربكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم أو إن يشأ يعذبكم وما أرسلناك عليهم وكيلا "54" )
في هذه الآية إشارة إلى طلاقة المشيئة الإلهية، فالحق سبحانه إن شاء يرحمنا بفضله، وإن شاء يعذبنا بعدله؛ لأن الحق سبحانه لو عاملنا بميزان عدله ما نجا منا أحد، ولو جلس أحدنا وأحصى ماله وما عليه لوجد نفسه لا محالة واقعاً تحت طائلة العقاب؛ لذلك يحسن بنا أن ندعو الله بهذا الدعاء: "اللهم عاملنا بالفضل لا بالعدل، وبالإحسان لا بالميزان، وبالجبر لا بالحساب".
والحق تبارك وتعالى لا ييئس العصاة من فضله، ولا يملي لهم بعدله، بل يجعلهم بين هذه وهذه ليكونوا دائماً بين الخوف والرجاء.
وحينما كان المسلمون الأولون يتعرضون لشتى ألوان الإهانة والتعذيب ولا يجدون من يمنعهم من هذا التعذيب، فكانوا يذهبون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكون إليه ما ينزل بهم، فرسول الله ينظر في أنحاء العالم من حوله بحثاً عن المكان المناسب الذي يلجأ إليه هؤلاء المضطهدون، ويأمرهم بالهجرة إلى الحبشة ويقول: "إن فيها ملكاً لا يظلم عنده أحد".
لقد كانوا في مرحلة لا يستطيعون فيها الدفاع عن أنفسهم، فالضعيف منهم عاجز عن المواجهة، والقوي منهم لا يستطيع حماية الضعيف؛ لأنه كان يذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقترح عليه الرد على الكفار ومواجهتهم بكذا وكذا، فكان صلى الله عليه وسلم يقول لهم: "لم أومر، لم أومر ..".
لأن الله تعالى أراد ألا يبقي للإيمان جندي إلا وقد مسه العذاب، وذاق ألوان الاضطهاد ليربي فيهم الصبر على الأذى وتحمل الشدائد؛ لأنهم سيحملون رسالة الانسياح بمنهج الله في الأرض، ولاشك أن المؤمنين، لذلك حدث للإسلام في عصر النبوة أحداث وشدائد، ومرت به عقبات مثل تعذيب المؤمنين وإيذائهم وحادث الإسراء والمعراج.
وكانت الحكمة من هذه الأحداث تمحيص المؤمنين وغربلة المنتسبين لدين الله، حتى لا يبقى إلا القوي المأمون على حمل منهج الله، والانسياح به في شتى بقاع الأرض، وحتى لا يبقى في صفوف المؤمنين من يحمل راية الإيمان لمغنم دنيوي، فالغنيمة في الإسلام ليست في الدنيا بل في جنة عرضها السماوات والأرض.
لذلك، ففي بيعة العقبة الثانية قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: سل يا محمد لربك ما شئت، ثم سل لنفسك بعد ذلك ما شئت، ثم أخبرنا ما لنا من الثواب على الله وعليكم إذا فعلنا ذلك. قال: أسألكم لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأسألكم لنفسي ولأصحابي أن تؤوونا وتنصرونا وتمنعونا مما منعتم منه أنفسكم، قالوا: فما لنا إذا فعلنا ذلك؟ فماذا قال لهم رسول الله؟ أقال لهم تملكون الدنيا؟ لا، بل قال: "لكم الجنة" قالوا: فلك ذلك.
فهذه هي الجائزة الحقيقية التي ينبغي أن يفوز بها المؤمن؛ لأنه من الجائز أن يموت أحدهم بعد أن أعطى رسول الله هذا العهد ولم يدرك شيئاً من خير الدنيا في ظل الإسلام، إذن: فالنبي صادق في هذا الوعد. ومادام الجزاء هو الجنة فلابد لها من جنود أقوياء يصبرون على الأحداث، ويواجهون الفتن والمكائد. فالمعنى:

{ربكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم .. "54"}
(سورة الإسراء)


بالخروج من مكة مهاجرين إلى ديار الأمن في الحبشة

{أو إن يشأ يعذبكم .. "54"}
(سورة الإسراء)


أي: عذاباً مقصوداً لكي يمحص إيمانكم ويميز المؤمنين منكم الجديرين بحمل رسالة الله ومنهجه. ثم يقول تعالى:

{وما أرسلناك عليهم وكيلاً "54"}
(سورة الإسراء)


الوكيل: هو المفوض من صاحب الشأن بفعل شيء ما، والمراد: ما أرسلناك إلا للبلاغ، ولست مسئولاً بعد ذلك عن إيمانهم، ولست وكيلاً عليهم؛ لأن الهداية والتوفيق للإيمان بيد الحق سبحانه وتعالى.
إذن: قول الحق سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم:

{وما أرسلناك عليهم وكيلاً "54"}
(سورة الإسراء)


ليست قهراً لرسول الله، وليست إنقاصاً من قدره، بل هي رحمة به ورأفة، كأنه يقول له: لا تحمل نفسك يا محمد فوق طاقتها، كما خاطبه في آية أخرى بقوله:

{لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين "3"}
(سورة الشعراء)


فالحق ـ تبارك وتعالى ـ في هذه المسألة لا يعتب على رسوله، بل يعتب لصالحه، والمتتبع لمواقف العتاب للرسول صلى الله عليه وسلم يجده عتاباً لصالحه صلى الله عليه وسلم رحمة به، وشفقة عليه، لا كما يقول البعض: إن الله تعالى يصحح للرسول خطئاً وقع فيه. ومثال لهذا قوله تعالى:

{عبس وتولى "1" أن جاءه الأعمى "2" وما يدريك لعله يزكى "3"}
(سورة عبس)
الله تعالى يعتب على رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه ترك الرجل الذي جاءه سائلاً عن الدين، وشق على نفسه بالذهاب إلى جدال هؤلاء الصناديد، وكأن الحق سبحانه يشفق على رسوله أن يشق على نفسه، فالعتاب هنا حرصاً على رسول الله وعلى راحته.
وكذلك في قوله تعالى:

{يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك والله غفور رحيم "1"}
(سورة التحريم)


والتحريم تضييق على النفس، فالحق سبحانه يعتب على رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه ضيق على نفسه، وحرم عليها ما أحله الله لها