وداعـــــــــــــــــاَ هيــــــــــــــــــا....
منذ سنوات تعودت هيا أن لا تنام بعد أن تصلي الفجر ، تعد القهوة لوالديها والإفطار لإخوانها ، وتكمل ما فاتها من أمور البيت ، التي غلبها الإعياء والنوم ، دون أن تنجزها الليلة السابقة .
في الخامسة والعشرين ولم تتزوج هيا ، التي أصبحت معلمة منذ ثلاث سنوات . متوسطة الجمال ، ومتوسطة في كل شئ ، طرق باب أهلها كثير من الرجال ، لكنها امتنعت عن الزواج ، أو أن شرطها ، يرد عنها راغبي الزواج : أتزوج لكن أبقى عند أهلي ...
- من يقبل هذا الشرط يا هيا ...؟
تسألها أمها بمزيج من العتاب والشفقة .
تحاصر آهة تكاد تذيب صدرها ، وترد على أمها دون أن تنظر في عينيها :
- المقسوم لابد أن يكون يا أميمتي .
بينها وبين أكبر إخوانها عشر سنوات ، بنت في الخامسة عشرة . أمها ليست من أنصار تحديـد النسل ولا تنظيمه .
نصف متعلمة ، أو قل أمية إن شئت ، أجهضت في حملها الثاني ، بعد هيا ، فأسقطت جنينها ، فتأثرت قدرتها على الإنجاب ، وفشل أطباء المستشفى الحكومي في علاجها ، ولم يكن في مقدور الوالد ، الفقير المعدم ، الذي لا يملك إلا دكانا صغيرا ، أن يعالج أمها في المستشفيات الخاصة .
حملت أمها دون علاج ، هكذا كأقدار البسطاء ، بعد عشر سنوات ، وأنجبت أربع بنات وولدين ، أكبرهم عمره سبع سنوات
قبل ست سنوات ، حينما كانت أمها حامل بأخيها الأصغر ، وبينما كان والدها يجتاز الشارع ، في ظهيرة حارة ، في اتجاه الكلية ، حيث كانت تدرس ، ليأخذها ويعود بها إلى البيت ، إجتاحته سيارة فارهة ، فأصيب بشلل رباعي . لم يعرف نوع السيارة ، ولا قائدها ، لكن ، قال له فيما بعد ، شخص كان حاضرا الحادث ، أنه ترجل من السيارة شاب ،
فتفقد مقدمة السيارة ، ثم قال ، وهو يمد بطاقة أخرجها من جيبه، لسيارة شرطة صادف وجودها في تلك اللحظة :
- "وجع ... ما يشوف ...؟" !!!!!!!!!.
ثـم أنطلق ، وهو يمسح من على جبينه حبات من العرق تكثفت ، حينما لفحت الشمس وجهه ، الذي كان قد غادر لتوه هواء مكيف السيارة البارد .
هيا تخرج من البيت بعيد الفجر ، قبل أن تمزق الشمس أستار الظلام ، لتقلها سيارة ، هي وبعض زميلاتها ، إلى حيث تدرس ، حيث تم تعيينها معلمة في مدرسة تقع في قرية تبعد عن مقر إقامتها(...)كيلو متر .
لم يشفع لها حطام ذلك الآدمى .. أبوها ، ولا أمها البائسة التي تنوء بهم أبيهاالمقعد ، وبقلق الخوف عليها منذ تخرج حتى تعود ، وقلق العـذاب على مستقبلها ، الذي يعني بؤسا وضياعا لهم جميعا لو تركتهم ...وهي لن تفعل .
قالت للمسئول :
- هذه حال أبي .. وأمي وإخواني القصر ، حاول أن تساعدني .. أن تجد لي مخرجا . سعادة المسؤل ، النزيه جدا ، قال لها : - عفوا .. النظام لا يسمح .
وضعت سماعة الهاتف ، والمرارة تكاد تمزق حلقها ، ونظرت بانكسار للمديرة وقالت :
- لقد رفض .. يقول النظام لا يسمح .
كلتاهما تعلمان أن (سعادته) ، قد نقل قريبة له قبل أيام ، من مدرسة في الحي المجاور إلى مدرسة ملاصقة لمنزلها .
استدارت خارجة من مكتب المديرة . وحينما حاذت لوحة على الجدار تعلق عليها قرارات إدارة التعليم بصقت عليها .
هكذا هو رد فعل المحرومين، البؤساء ، يعبرون عن غيظهم بالبصق على الجدران .. فقط حينما لا يراهم أحد .
دائما أصادف هيا تخرج ملتفة بعباءتها مع الفجر ، تنتظر السيارة التي تقلها إلى عملها .. إلا اليوم . اليوم أنا أجهشت بالبكاء ، حيث لم تخرج هيا كعادتها . وهي أيضا لم تعد القهوة لوالديها ، ولم توضئ أباها المقعد ، قبل ذلك ، أو تدفئ الماء لأمها ، التي تسلخت يداها ، من رضح نوى التمر لبيعه علفا للأغنام . وهي كذلك ، لن تصنع فطورا لأولئك الأطفال ، الذين سيخرجون إلى المدارس شعورهم مبعثرة .. وربما بلا فطور .
اليوم أنا أجهشت بالبكاء ، بكيت كثيرا ، رغم أنه لا تربطني بهيا صلة ، ولا أعرفها ولا تعرفني . ليس لأن هيا في الخامسة والعشرين ولم تتزوج ، لأنها تصر على أن تبقي مع أهلها . لا ... لقد غادرت أهلها إلى الأبد .
اليوم أنا مزقني البكاء على هيا ، التي رحلت وأخذت قلبي معها ... قلبي الذي تعلق بروحها دون جسدها ، هيا ماتت بحادث سيارة ، قتلتها السيارة التي تحملها إلى عملها البعيد عن حطام البشر ، الذين كانت تقوم قبل الفجر من أجلهم .. وأمتنعت عن الزواج من أجلهم . ماتت وهي في طريقها إلى عملها البعيد ، الذي تمزقت بينه وبين نماذج من البؤس ، قضت المشيئة أن تكون حبلهم الوحيد المتصل بالحياة .
أنا جار هيا الذي أنطفأ وهج الحياة في قلبه ، يوم أنطفأت هيا .. الشمعة التي ظلت تتقد بصمت .. تقاوم الظلام بصمت .. تقاوم الصقيع بصمت .. الظلام والصقيع بكل ما يمثلانه من ظلم ، وتخلف ، وحيف ، وقسوة ، وترف ، ومحسوبية .. وبيروقراطيـة قبيحة . الظلام والصقيع كأبرز مظاهر التوحش وإحتقار الإنسان ونسيانه .
أنا اليوم جار هيا الجريح ، معطوب إلى النهاية ، لأن هيا التي مثلت أجمل مظاهر مقاومة الفناء ، الذي يفرضه الإنسان على الانسان ، وهيا التي مثلت نافذة الضوء الوحيدة ، لبقايا بشر (يقفون) بين الحياة واللاحياة .. قد أنطفأت إلى الأبد .
هيا ماتت في حادث سيارة ولم يسمع بها أحد ، رغم أنه دوى في قلوب أناس أيقظ نحيبهم صـم الصخر . ماتت هيا ... لم يسمع بها أحد ، وهي التي لم تضاجع الرجال ، ولم تتعرى ، ولم تتخذ صديقـا ، ماتت في عباءتها .. لم ير جسدها أحدا . ماتت لم تتزوج ولم تصنع لنفسها حياة ، لأنها كانت مشغولة بصناعة الحياة لغيرها ... ولم تكتب عنها الجريدة
قلت لرئيس تحرير جريدتنا المحلية :
- ماتت هيا ..
قال : - كتبنا عن ديانا .
اليوم أنا أجهشت بالبكاء ... بكيت طويلا ، وقفت ولم تخرج هيا كعادتها . اليوم كذلك ، لم يخرج الأطفال إلى المدارس ، ليس لأنه ليس هناك (هيا) ترتب شعورهـم وتعد لهم الإفطار . اليوم لم يخرج الأطفال إلى المدارس لأنه ليس لديهم دفاتر ، ولا أقلام ، ولا (مراييل) جديدة .. ولا فطور ... لأن هيا لم تعد هناك تنفق عليهم .
ماتت
|