01-11-2003, 07:32 AM
|
#180
|
عضـو مُـبـدع
بيانات اضافيه [
+
]
|
رقم العضوية : 4018
|
تاريخ التسجيل : 05 2003
|
أخر زيارة : 29-10-2013 (06:09 AM)
|
المشاركات :
861 [
+
] |
التقييم : 10
|
|
لوني المفضل : Cadetblue
|
|
"هذا هو نص القصيدة التي أثارت مناقشة حادة في الأوساط الإسرائيلية وفي الكنيست بالذات، فكانت ردود الفعل عليه مؤكدة على كذب مقولة "موت الشعر" وعلى كون هذه المقولة مجرد شائعـة منسوخـة عن بقيـة شائعات الموت " الايديولوجيات" و" القوميات" و" التاريخ" … وغيرها من شائعات عصر المعلومات الذي يبدو وكأن غاية مأربه نشر الشائعات والترويج لها، باعتبارها أقصر طرق تحقيق الفائدة والفاعلية الداعمة لمكاسب مالكي وسائل الاتصال وتكنولوجياته. فهل يمكن للشعر أن يستمر في الحياة متحدياً الشائعة المعلوماتية وتكنولوجيا العصر؟
في عودة الى الأصول نجد أن الشعر كان يمثل ولعصور طويلة قناة الاتصال المثالية. وتتأكد لنا أهميته الإعلامية – المعلوماتية من خلال وجوه استعماله التاريخية. حيث نلاحظ أن الشعر لم يقتصر على إبداعية التعبير عن المشاعر الإنسانية وعن وجدان المبدع. فقد استعمل الشعر لتسهيل حفظ الشعائر الدينية. حيث تحويل هذه الشعائر الى ترانيم يسهل حفظها ويشجع على تردادها بصورة جماعية. مما يحول التراتيل الجماعية الى نوع من السيكودراما الموظفة دينياً ولاحقاً سياسيا. مع ظهور قصائد المدح والهجاء ولاحقاً مع امتزاج الشعر – الترنيمة مع الموسيقى وتدخل هذه الأخيرة في تلحينه. لغاية تحول القصيدة الى أغنية سياسية.
عبر هذه المتابعة السريعة نلاحظ أن البشرية لم تتقدم كثيراً ! أو هي لم تستطع التنصل من بدائيتها، فالإنسان لا يزال يمارس الجنس بذات الطريقة التي مارسه فيها الإنسان الأنيوليتي، بل انه لم يستطع أن يضيف أي شيء الى تلك المعروفة تاريخياً. كما أن هذا الإنسـان المعاصر لا يزال يربط إقبالـه أو عزوفـه ،
عن موقف ما، بغرائزه البدائية.
لعل الإنسان المعاصر يملك قدرة إرضاء هذه الغرائز بصورة أكثر مباشرة وأكثر استجابة لهواماته الغريزية. وقد يكون ذلك مدعاة له كي يتجنب إرضاء هذه الهوامات عن طريق التوحد بالشاعر أو بمعاني القصيدة أو الأغنية. فعصر المعلومات يمكنه من تجسيد رغباته الخاصة – بل بالغة الخصوصية – بصور حسية ملموسة. لكن هذا كله لا يستطيع أن ينزع من الإنسان رغبته في الحصول على الاعتراف (قبول الآخر له)، وهذا الاعتراف لا يمكن الحصول عليه من تكنولوجيا الاتصالات. التي لا تخرج عن كونها آلات مبرمجة في اتجاهات محددة تجلب الاعتراف لشريحة معينة وتنزعه عن شرائح أوسع وأكثر اقتداراً وحاجة للإعتراف.
وفي عودة الى قصيدة "عابرون في كلام عابر" نجد أن الصهيونية، التي تدعي ملكية السيطرة الإعلامية وتكنولوجيا الاتصالات، قد اهتزت لهذه القصيدة. وهذا الاهتزاز يدحض شائعة موت الشعر ومعها بدائية القصيدة وموت المؤلف وإمكانية التحكم بسلوك المجموعات البشرية ونزع هويتها من طريق منحها اعترافاً إيحائياً ووهمياً.
فهذا الشاعر الفلسطيني يسخر عبر هذه القصيدة بكل مقولات العصر الجديد ويدعوشعبه إلى عدم الانسياق وراء " الاعتراف الوهمي" الذي يعرض عليه معلباً على شكل " دولة موهومة ". بل هو يدعوه للنكوص إلى عصر استخدام الحجر لبناء سقف السماء. فالسماء ترحم وتظلل أولئك الذين عايشوا الحجارة التي تحتها والتي استخدمت في بناء سقفها. وهذا النكوص الى حجارة السماء يتطلب وقفة اختصاصية تجمع بين التحليل النفسي والانثروبولوجيا والتاريخ بالإضافة إلى معطيات الراهن بالغة التعقيد. وهذا التحليل قد يكون اختصاصياً أكثر من اللازم لكننا نعتبره حاجة لتبيان فعل الشعر وحيوية القصيدة ولإظهار بعدها الثالث وهو البعد الفكري الذي يكمل البعدين اللغوي والإنفعالي العاطفي.
والقصيدة التي بين أيدينا هي قصيدة نكوصية. والنكوص بحسب التحليل النفسي هو عودة إلى الماضي تهرباً من حاضر (راهن) لا تستطيع الأنا تحمله. أو أنها ترغب في تجنبه على الأقل. هذه العودة إلىالماضي تعتبر خطوة على طريق العودة الى الصفر (العودة الى بطن الأم التي تعكس فكرة ليتني لم أولد كبديلة لفكرة ليتني أموت). ومن هنا فإن النكوص يعتبر علامة من علائم الموت، وذلك تهرباً من راهن لا يحتمل ومستقبل يفترض أنه أكثر سوءاً. لكن هذا النكوص يتحول إلى علامة حياة عندما يكون مدروساً كي يتم تسخيره لفهم الحاضر واستيعابه بغية تجاوزه الى مستقبل أفضل والعلاج بالتحليل النفسي يعتمد على تداعي الذكريات (نطلب من المتعالج أن يعـود الى الماضي ويتذكر احداثه المؤثرة) وهي تحديداً ما يسمى بالنكوص المدروس (تحت قيادة وتوجيه المعالج) الذي يهدف الى تنقية أحداث الماضي من انعكاساتها السلبية على الشخصية وتحويل هذه الأحداث لخبرات شخصية تساعد على مواجهة الخبرات الحاضرة والمستقبلية الشبيهة.
وهاهو محمود درويش يتبدى محللاً نفسياً – أنثروبولوجياً في هذه القصيدة فتراه ينكص الى الحجر (الأرض وهي رمز الأم فائقة القوة والقادرة على حماية أبنائها والاستجابة لرغباتهم). وهذه الأم قوية بحيث تبني سقف السماء وتحول الموضوعات السيئة إلى مجرد عابرة. وفي تاريخ جبروت هذه الأم قدرتها على إلقاء حجارة تسقط من السماء على هذه الموضوعات السيئة (العابرون) فتتغلب على قوتهم العسكرية. وبذلك يصبح السيف والفولاذ والنار والدبابة وقنبلة الغاز … الخ أدوات عديمة الجدوى أمام اللحم والحجر والمطر والسماء والهواء … الخ. والافتقاد للجدوى يدفع بدرويش الى طلب: " اسحبوا ساعاتكم من
وقتنا "وهو طلب ينطوي على منحى وجودي بالغ الدلالة. فدرويش وجماعته يعايشون الوقت والزمن بطريقة مختلفة تمام الاختلاف عن معايشة العابرين لهما. فزمن أصحاب الأرض مرتبط بتاريخ عيش على هذه الأرض ومعايشة لحجارتها وارتباط بها لا يختلف بحال عن تعلق رضيع بثدي أمّـه. أمـا العابرون فلهم بعض التحف مع هيكل عظمي للهدهد وأشياء أخرى يمكن تكديسها في حفرة مهجورة. كيف لا وقد امتد حفظ هذه الأوهام، على مدى قرون عديدة، في الحفر المهجورة. حتى باتت القطيعة التاريخية(الممتدة من سنة 70 ميلادية لغاية أواخرالقرن التاسع عشر) كافية حتى لمنعهم من العبور!
وبما أننا نتكلم عن مبادئ التحليل النفسي فلا بد لنا من استعادة بعض ما كتبه فرويد (مؤسس التحليل وهو يهودي) في كتابه موسى والتوحيد. حيث يقول:" … إعتمد اليهود حيلة ادعاء النسب بينهم وبين الشخصيات الكنعانية الشهيرة. وذلك بهدف التخفيف من وطأة معاملة السكان المحليين لهم بصفة مستعمرين… ".
أما التحليل النفسي ومعه علم اجتماع المعرفة فإنهما لا يقبلان مقولة " التاريخ تأليه معكوس" لما تحتويه هذه المقولة من تكريس لدور الأسطورة. وهو الدور الذي تقوم عليه إسرائيل المبنية على غرار الأساطير، حتى تبدو هي نفسها مجرد أسطورة. والأساطير لا تبقى. فالتاريخ الذي يحميها هو نفسه الزمن الذي سيفضحها في وقت لاحق. ومن هنا قول درويش "… فلنا ماليس يرضيكم، لنا المستقبل ".
وهكذا وعبر قصيدة، يعلن درويش طلاقاً بائناً لحوار اللامعقول – الأسطورة وينتقل الى مقارعة ميثولوجية تنقل الصراع من مسرحيات التفاوض من أجل الاتفاق على لا شيء، إلى حقل القناعات الماورائية والوعود المستقبلية المتضاربة. لكن درويش يستند إلى وعود الأم – الأرض والحجر وهي أمومة عالمية بعيدة عن احتكار يحتاج لدعم الأساطير ولفبركة مقولات أسطورية ملائمة لأجواء الراهن، يعقبها التراجع عن الأسطورة لمصلحة تاريخ جديد يمكنه مواجهة الجينزا (مكنوزات المعابد اليهودية) والاكتشافات الأثرية التي تعيد للتاريخ موضوعيته فتنقذه من أسر الأساطير.
ونجاح هذه القصيدة لا يستند فقط إلى الاسقاطات التي يستثيرها لدى رأي عام عربي، عاشق للأرض متعلق بسقف السماء منتظر لوعودها بعد أن خيبه الراهن، بل هو يستند أيضاً
إلى الاسقاطات التي أثارها لدى الجمهور الإسرائيلي الذي يتحول من مارد جبار إلى رعديد عندما يفقد قدرته على العدوان. فالعدوان هو حامي الأسطورة ومصدر فرض شرعيتها، ومن دونه تزول الأسطورة ويتحول هؤلاء إلى مجرد عابرين في كلام عابر.
ولعل المقطع الأخير في القصيدة " فاخرجوا من أرضنا..." يشكل تحدياً للمتحولين العرب أكثر منه للإسرائيليين أنفسهم. فهؤلاء يعرفون أن تراب الأرض المحتلة لا يحوي رفات آبائهم ولا يضم بقاياهم في تكوينه. أما المتحولون فقد صفعتهم معاني القصيدة خصوصاً لجهة تشكيكها بالمستقبل، الذي يراه المتحولون استقراراً وتوسيعاً لنفوذها الاقتصادي وأيضاً توسيعاً لمفهوم اليهودي – البدوي المتنقل بحرية وبدون شروط في البوادي العربية. وهم يرهبون قول درويش " لنا المستقبل " بما فيه من رفض للبداوة اليهودية. هذا الرفض الذي كرسه نجاح القصيدة لدى الجمهور العربي والرهاب الذي ولدته لدى الإسرائيليين!
أما لماذا نتناول هذه القصيدة وقد انقضت سنوات على نشرها فالسبب في ذلك يعود إلى نهاية فترة حضانتها في المجتمع الإسرائيلي وبداية ظهور تأثيرها الخوافي المعمم في هذا المجتمع. وفترة الحضانة هذه لازمة لكل عمل إبداعي أو فكري. وهي الفترة التي يستغرقها العمل حتى يصل إلى المعنيين بخطابه، وتزداد هذه الفترة عندما يحتاج العمل للترجمة كونه منشوراً بلغة غير لغة المهتمين. كما تتأثر هذه الفترة بعوامل التوزيع والرقابة وقنوات الاتصال. ومجموع هذه العوامل يذكرنابالمثال الفرنسي القائل "خير لك أن تصل متأخراً من أن لا تصل أبداً! " . وها هي القصيدة قد وصلت ولكن ماذا عن الشاعر؟ ماذا عن محمود درويش وعن قصيدته الجديدة التي تعكس مرارة المفاوضات المتصلة وأعداد اللاجئين والمستوطنين المتزايدة بما يضعنا على مشارف اليأس من الحصول على الاعتراف ويجعلنا نصدق شائعة " نهاية التاريخ " فندفن تاريخنا ونتخلى عن مستقبلنا لنتحول إلى كائنات معلوماتية
دنيا؟ لكن الموت سينقذنا من هذه المتاهة كونه يذكرنا بأن نهاية التاريخ بالنسبة للأفراد هي نهاية حياتهم. ولكن التاريخ نفسه لا يقف عند هذه النهاية. لدلك فهو يروح يتابع دورته فارضاً على الزمان تقسيماً اعتباطياً قوامه ماض وحاضر ومستقبل. وهذا التقسيم اعتباطي لأنه لا يراعي نسبية الساعات (كآلات لقياس الوقت). وهي نسبية يصر عليها درويش. كما أصر عليها دالي في لوحته " الزمن السائل" وفيها ساعات مختلفة. وإشارة درويش لنسبية الساعة رمز لنسبية الزمن والتاريخ ودعوة لمحاربة الأساطير بأساطير مضادة، كما أنها دعوة لاعتبار المفاوضات والاتفاقات مع إسرائيل مجرد كلمات عابرة. فإسرائيل تعتبرها كذلك (أي كلمات عابرة) بحكم تعاليمها ومبادئها وتاريخها. لكنها لا تريد أن تفهم بأنها هي نفسها عابرة مع هذه الكلمات. فهل نحن بحاجة بعد كل ذلك لقراءة تفسيرية وتوضيحية وإسقاطية لهذه الأبيات التي تعني حياة الشعر والشاعر وتدحض نهايات التاريخ والشعر وتؤكد سعي الإنسانية الحثيث نحو " الاعتراف " وهو السعي الذي أكده هيغل وترجمته الشعوب على مر تاريخ البشرية! "
منقول من موقع www.psyinterdisc.com
"الثقافة النفسية المتخصصة" مفالة بعنوان "لنا ما ليس لهم...لنا المستقبل".
|
|
|