27-12-2012, 06:50 AM
|
#2
|
نائب المشرف العام سابقا
عضو مجلس إداره دائم
بيانات اضافيه [
+
]
|
رقم العضوية : 28619
|
تاريخ التسجيل : 08 2009
|
أخر زيارة : 04-12-2022 (09:58 PM)
|
المشاركات :
6,209 [
+
] |
التقييم : 239
|
الدولهـ
|
الجنس ~
|
|
لوني المفضل : Navy
|
|
الحلقة الثانية ..
كانت فى مثل سنِّى وقتها.. ذات ابتسامة مضيئة ووجه مستدير يحيطه شعر أسود قصير.. حين تقرأ يتهدل
على عينيها حتى يغطيهما..وحين ترفع رأسها وترانى تلمع عيناها الضيقتان بنظرة تشع لؤما بريئا
أنا المترجم الرئاسى، الموثوق به، الذى قضى عمره فى ردهات القصور، على متن الطائرات الرسمية، أو فى قاعات محظور الدخول إليها، جالسا بين مقعدين، يستمع ويترجم لشاغرَيهما ما يقوله كلٌّ للآخر دون أن يكون له أن يقول. أنا الذى سمع الكثير ورأى الكثير، منذ التحقت بهذا القصر الأسطورى وأنا شابٌّ فى مثل عمرك وحتى صار حماى رئيسا. كم سنة؟ التحقت بالخدمة فى أثناء حرب تحرير الكويت، فى بداية 1991، ونحن نقترب الآن من نهاية 2020، أى قرابة ثلاثين عاما. ثلاثون عاما لم أتكلم دون أن يُطلب منى الكلام. شاهد صامت على عائلة ممتدة من المؤامرات والصفقات والخيانات والفتن. شهدتُ طرد الرئيس من القصر عند اندلاع الثورة الأولى، وشهدت الحكم العسكرى، ونجوت بأعجوبة من الموت فى أثناء اقتحام القصر الرئاسى وإحراقه فى الثورة الثانية، وشهدت الاحتلال والتفاوض والتخاذل، وخيبة الأمل. وكنت دوما شاهدا صامتا، مرآة لما يقوله الرئيس وضيوفه. وحين قررت الخروج عن صمت ثلاثين سنة، لم أجد أمامى سوى الخيانة طريقا.
سيهاجمون السفينة عند الفجر. هذا ما اتفقنا عليه. أنا الذى أبلغتهم بالصفقة المرعبة، وبخطِّ سيرنا، وبتفاصيل السفينة وأماكن الشحنة وأكوادها. فى البداية ذهلوا وظنُّوا أنى جُننت أو أخدعهم. لكنى أثبتُّ لهم بما لا يدع مجالا للشك أن هذا الجنون حقيقة. وتتبعوا من خلالى تطور الصفقة حتى أمس، حين قطعنا الاتصالات الإلكترونية بالعالم الخارجى ودخلنا فى صمت لاسلكى كامل. لا يوجد مصريون هنا غيرى أنا واللواء المنيسى. الباقون طاقم السفينة التجارية وعمال شحن آسيويون. حين وضعنا خطة نقل الشحنة فضَّلنا أن لا نأتى بمصريين غيرنا حفاظا على السرية. وبالطبع لم نضع حراسا مسلحين لتفادى الشبهات. ثم ما جدوى الحراس فى مواجهة سلاح البحرية؟ أقول وضعنا الخطة لأنى شاركت فى هذا. كما شاركت فى الاتفاق على خطة البحرية الأمريكية للاستيلاء على السفينة. تقتضى الخطة عدم إطلاق النار على أحد: سيهبطون فى الظلام من طائراتهم ويقبضون علينا جميعا، يصادرون الشحنة النووية ثم يقطرون السفينة إلى أقرب قاعدة بحرية أمريكية ويسلموننا بعدها -وأمام الكاميرات- للسلطات المصرية.
لا يعلم أمر الشحنة ومكانها وخط سيرها سوانا أنا واللواء المنيسى والرئيس القطان. حتى الرجل الصينى الذى لعب دور الوسيط مع الكوريين مصدر الشحنة لا يعلم أين ذهبنا بها منذ تَسلَّمناها. استقلَّ الطائرة إلى مصر مع مرافق مصرى لا يعرف شيئا من أمر العملية سوى ضرورة مرافقة هذا الرجل الصينى الهامّ حتى مطار القاهرة، وبلغنا أمس أنه وصل وينتظرنا هناك. طاقم السفينة يعلم أننا نصاحب شحنة هامَّة، ووافق على بعض الاحتياطات مقابل الأموال التى تلقوها، لكنهم لا يعلمون كنه الشحنة.
رتبنا عمليات النقل والشحن عن طريق حلقات منفصلة لا يعرف بعضها بعضا ولا تعرف من أمر العملية نفسها شيئا. وبالتالى، حين تهبط طائرات البحرية الأمريكية على رؤوسنا فى الفجر، لن يكون هناك شك لدى اللواء المنيسى أنى أنا الذى أفشيت السر. قد يتردد الرئيس فى تحديد من منّا الخائن، لكنه سيتذكر ولا ريب معارضتى للفكرة ومحاولاتى الخجول لثنيه عن تنفيذها. على العموم أنا لا أنوى الإنكار. ومثلما رفضت عرض الأمريكان بتوفير ملاذ آمن لى (قالوا إنه سيكون على البحر إن شئت فإنى سأرفض أى مساومة مع القطان. سأعترف علنا بما فعلت، وساعتها لن يكون أمامه إلا محاكمتى، أنا زوج ابنته، بتهمة الخيانة العظمى. وستكون هذه نهايته ونهاية حكمه التعس. أعدك بهذا.
ولكن ماذا لو وقع اشتباك؟ ماذا لو كان لدى اللواء المنيسى تعليمات من رئيسه بأن لا يترك الشحنة إلا ميتا، أنا وهو؟ أو لو وقع لى «حادث أليم» بعد تسليمنا للسلطات المصرية؟ ماذا لو تغابت القوة المهاجمة كعادة القوات المهاجمة وبدأت فى إطلاق النار فى كل الاتجاه مثلما كانوا يفعلون فى الأفلام القديمة؟ فى أى من هذه الحالات، ستكون هذه الرسالة بين يديك، تشرح تفاصيل خيانتى وأسبابها وملابساتها، وتكون مهمتك هى قراءتها، والتفكر فيها، ونقلها للناس.
هى قصة طويلة، وسأقصها عليك بكل التفاصيل التى أستطيع ذكرها، فقد يكون هذا آخر ما يصلك منى. لدى أربع وعشرون ساعة، سأملؤها بقصصى ولن أنام. سأبدأ قصتى من حيث سأنهيها، من العاصمة الصينية بكين. وسيكون حاضرا معى فى لحظة البداية، لسخرية القدر، تقريبا نفس الأشخاص الذين سينهونها معى. كنا فى عام 1989 وأنا تقريبا فى مثل عمرك، على وشك التخرج فى الجامعة. وكنت فى بكين مع جدك رحمة الله عليه، العميد شكرى فؤاد الذى كان فى العام الأخير من خدمته بالصين كملحق عسكرى. انتقلنا جميعا معه، جدَّتك عزيزة وعمك عمر وعمتك صفية، حين بدأ عمله هناك قبلها بثلاث سنوات. ظلَّ ثلاثتنا مقيَّدين بالجامعة بمصر، عمر بالسنة الأخيرة بكلية الحقوق وصفية بالسنة الثالثة بكلية التجارة، وأنا بالسنة الأولى بقسم الفلسفة بآداب القاهرة. ولأنها كليات نظرية فقد دبَّر لنا الوالد تفاهما مع الجامعة يسمح لنا بالغياب طوال السنة الدراسية والعودة لأداء امتحانات آخر العام. وبالتالى كان لدينا كثير من الوقت فى بكين. عمك عمر كان قَلوقا بطبعه، ولم يحتمل الفراغ الكبير والغربة عن كل شيء خصوصا أن اللغة الإنجليزية لم تكن وقتها منتشرة فى الصين. وانتهى به الأمر بأن عاد إلى مصر وعاش بالمدينة الجامعية حتى تَخرَّج، ثم وافق أبى أخيرا على إقامته ببيتنا بمدينة نصر وحده حتى عدنا. صفية قضت الوقت الكثير المتاح مع أمى رحمها الله، بين العناية بالبيت الكبير والإشراف على حفلات الاستقبال العديدة التى يقيمها الوالد، ومساعدتها على «التصرف» لإطعام الضيوف الذين يأتى أبى بهم إلى البيت دون سابق إنذار، وبين اكتشاف أماكن التسوق الأفضل والأرخص فى متاهات بكين.
أما أنا فقد قضيت هذا الوقت فى تعلم اللغة الصينية. لِمَ؟ بلا سبب واضح. كنت بارعا فى اللغات، ورغم تعليمى الحكومى فقد أتقنت الإنجليزية بشكل لافت. ولأنى كنت أحب الفلسفة وأدرسها، فقد فكرت فى تعلم اللغة الصينية كى أقرأ الفلسفة الصينية بما أنى أعيش فى بكين. فكرة ساذجة طبعا، لكن هكذا نفكر ونحن فى السابعة عشرة، إن كنت تذكر! المهم أنى أقنعت أبى وسجَّلنى فى مدرسة تعطى دروسا مكثفة للأجانب. وبرعت فى هذه اللغة الصعبة بشكل لفت أنظار الجميع، حتى إنى صرت قادرا على القراءة والكتابة والحديث بشكل معقول فى عام ونصف. ولم أتوقف، بل تابعت الدراسة طوال الوقت حتى صرت، بلا مبالغة، طلقا فيها كأهل البلد بنهاية السنة الثالثة، حين بدأت سلسلة الأحداث التى ستقودنى إلى هذه السفينة القاتلة.
نجاحى فى اللغة الصينية جعلنى محطَّ فخر أبى وأمى وأختى بشكل لم أعهده من قبل. غمرنى هذا الفخر بشعور بالحنان والدفء والاطمئنان لا مثيل له، وما زال يراودنى كلما ذكرتهم. استغرب الجميع، خصوصا أصدقاء أبى وزملاءه، من نبوغى فى تعلم اللغة، وتطوعوا بتفسيراتٍ ما أنزل الله بها من سلطان، من عقل المراهق الذى يلتقط اللغات بشكل خاص، إلى الذاكرة البصرية التى تصور الحروف. وصحيح أنى موهوب فى اللغات بشكل عام، ويشهد على ذلك تعلمى للفرنسية وإتقانى لها بعد عودتى إلى مصر، ولكن الحقيقة أن سبب إتقانى للغة الصينية، وإتقانها بهذه السرعة الصاروخية، أبسط بكثير من هذه التفسيرات وأحلى، واسمه «داو مينج».
داو مينج كانت فى مثل سنِّى وقتها. ذات ابتسامة مضيئة ووجه مستدير يحيطه شعر أسود قصير. حين تقرأ يتهدل على عينيها حتى يغطيهما. وحين ترفع رأسها وترانى تلمع عيناها الضيقتان بنظرة تشع لؤما بريئا، ثم تغطى فمها بيدها وتشيح بوجهها كأنما خجلا. أين أنتِ الآن أيتها الدربُ المضىء؟
التقيتها فى معهد تعليم اللغة الصينية للأجانب، حيث تدرِّس كجزء من برنامج للخدمة العامة يتعين على الشباب الجامعى المرور به. ورغم حداثة سنِّها، أو ربما بسبب ذلك، فقد كانت شديدة الصرامة معنا. حتى سألتها فى مرة بعد الدرس عن جامعة بكين التى تدرس بها، استرسلت فى الرد حتى جاء عامل التنظيف وقال لها شيئا لم أفهمه، وساعتها رأيت لأول مرة ابتسامتها المضيئة تلك وحركة تغطية فمها بيدها. أعجبتنى. وأنت تعرف كيف تعجبنا البنات ونحن فى السابعة عشرة. سألتها عما قاله الرجل فقالت إنه يطردنا لأننا تأخرنا. لم أفهم ما المضحك فى ذلك، ولم أكن بعد قد علمت أن هذه طريقتها فى التعامل مع كل ما يفاجئها. مشيت معها حتى محطة الأوتوبيس. سألتنى عن معنى اسمى فقلت مُحرَجا «الشخص المرتفع». ضحكت وهى تهزّ رأسها وصمتت. فسألتها عن معنى اسمها هى فقالت «الدرب المضيء». ثم صمتنا وبدأت أشعر بحرج شديد وفشل وندم أنى حدثتها. سألتنى كيف أدرس بمصر إن كنت موجودا بالصين طوال العام فشرحت لها وهى تهز رأسها. وعندما قلت إنى أدرس الفلسفة وقفت وسألت فى دهشة: «الفلسفة؟! أنت تدرس الفلسفة؟!» قلت: «نعم»، فأضافت ببساطة شديدة أنها هى أيضا تدرس الفلسفة، ثم ضحكت ووضعت كفها على فمها وأشاحت بعينيها ناحية الأرض واستأنفت السير.
وهكذا، فى هذه اللحظة، ونحن سائران نحو محطة الأوتوبيس، هى تنظر بعيدا وأنا أحدّق إلى شعرها، قررت أنى أحب داو مينج.
|
|
|