عرض مشاركة واحدة
قديم 30-09-2022, 10:26 AM   #5
ستوكا
عضـو مُـبـدع


الصورة الرمزية ستوكا
ستوكا غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 40364
 تاريخ التسجيل :  09 2012
 أخر زيارة : 25-11-2022 (02:32 PM)
 المشاركات : 797 [ + ]
 التقييم :  34
 الدولهـ
Syria
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Black


« من الحكمة والتبصر الزهد في هذه الحياة
ودفعها عنا ما استطعنا إلى ذلك سبيلا .
ومن فعل ، فلن يُعلّق أبداً آمـالاً عريضة على أي شيء ، ولن يتحمس للحصول على أي شـيء مهمـا كان ، ولن يتشكَّى من أي عارض يعترضه أو معاكسة تترصده . وبالتالي فسينقاد إلى الإقرار بحقانية هذه الحقيقة البسيطة والنافذة التي جاءت على لسان أفلاطون :
" لاشيء ، لاشيء على الإطلاق من أمور البشر يستحق أن تهتم به بحماسة زائدة " .
كما لن يجد بداً من الإقرار أيضا بوجاهة هذه الحقيقة المماثلة التي تبدت في شذرات شاعر فارسي :

هل فقدت العالم کله ؟
لا تحزن ، فالأمر هين .
هل صار كله طوع بنانك ؟
لا تفرح ، فالأمر هين .
أفراح ، أتراح ، آلام ، آمال ،
كلها إلى زوال ،
مر منها مرّ الكرام ، ولا تبالي ،
فالأمر هين .

إن النفاق المستشري في العالم هو الذي يزيد من صعوبة تشرُّب وتقبُّل هذه الحكم العامة والحقائق البديهية والبسيطة . لذلك ، يتعين فضحه والتصدي له ، وبحزم ، منذ سنوات الشباب الأولى .
فمظـاهر الأبهة ليست سوى مظاهر للأبهة ، هي ديكور مسـرحي يُعـوزه الأساسي ، ويفتقد للجوهري الذي هو غائبه الأكبر .
كـذلك هـي السفن المزينة بالأعلام والزهور وطلقات المدفعية والأنوار والطبـول والمزامير وصيحات الفرح ، إن هي إلا مظاهر وعلامـات وشـارات وطلسمات دالة على الفرح ، إلا أن الفرح هو الغائب المطلق فيهـا ، والمفترى عليه الأكبر ، وحده اعتذر عن الحضور . وحيث يحضر فعلاً ، يكون حضوره حقيقياً وواقعياً ، يحضر دون أن يكون مـدعواً ودون اشعار سابق ، يأتي من تلقاء نفسه وبلا مقـدمات ولا شـكليات ، يتسلل ، في صمت ، إلى المناسبات اليومية البسيطة ، وإلى مناسبات عادية خالية من كل هرج ومرج ، ومن كل مظاهر الأبهـة الزائفـة .
فالفرح أشبه ما يكون بالذهب في أستراليا حيث نجده في شكل تبـر منثور ومبعثر في كل مكان ، كيفما اتفق وبلا قاعـدة ضـابطة ولا قانون موجه ، ولا نجده أبداً في هيئة كُتل ضخمة .
إن الغايـة مـن تظاهرات الفرح المزعوم والمزيف هي الإيهام ، إيهام النـاس بـاقتران الفرح بالاحتفال ، وبتلازم الفرحة والحفلة والفرجة . وهذه مغالطـة كبيرة جداً . وما يسري على الأفراح يسري على الأحزان . فالموكب الطويل المُشَيِّع لجنازة يكسوه حزن من خارجه ، وعرباته لا تكاد تنتهي ، لكن عندما تحدق النظر في داخلها ، فستجدها فارغة إلا من الميت الـذي لا يُشيِّعه ، في واقع الأمر ، إلا سواق العربات التي تجرها الخيول وتلك ، لعمري ، صورة ناطقة عن كذبة الصداقة وفرية التقدير في هذا العالم ! هو ذا ما أسميه زيف وبطلان السيرة الإنسانية المعجونة عجناً في نفاق متأصّل .
هناك مثال آخر هو الاستقبالات الفخمـة للضـيوف والمدعوين وهم في كامل زينتهم ، يعتمرون لباس الحفلة الذي يدل على انتمائهم إلى مجتمع النبلاء .
غير أن الفرح يعتذر ، مرة أخرى ، عن الحضور إلى مثل هذه المناسبات الاحتفالية تاركـاً مكـانـه للعنـاء والإكراه والضجر . فحيثما كَثُرَ الضيوف ، كَثُرت الحثالة ، ذلـك أن الناس الجديرين بالصحبة والرفقة يُعدُّون على رؤوس الأصابع في كل مكان .
في مثل هذه الأفراح الاصطناعية ، يَكثُر التـباهي والزعيـق وتتردد أصداء جوفاء والتصرفات الكاذبة الهادفة إلى إيهام الحاضرين والمدعوين بأن الجميع طَلَّق البؤس والعوز الطلاق الثلاث . والحال أن العوز والبؤس هو السمة الأساسية للوجود البشري ككل ، بل منها عُجِنْ . وبضدها تتميز الأشياء ، كما يقول المثل . ويقتصر مفعول هذه " الأفراح " على المكتفين بالنظر إليها مـن خارجها دون النفاذ إلى أعماقها ، وهو الهدف الذي من أجله وجِدتْ أصلاً.
قال شامفورت كلاما آسراً :
" إن المجتمع والحلقيات والـدوائر الصغيرة والصالونات لا تعدو أن تكون أمكنة شبيهة بخرقة رثـة ، أو أوبيرا رديئة لا تُرجى منها فائدة ، ولن تقوم أبداً لروادها قائمة لـولا تزيّيهم بمظاهر الزينة ، وارتدائهم للأزياء التنكرية ، وحرصهم الـدائم على التفاخر والاستعراضية . كذلك هو الأمر بالنسبة للأكاديميـات وكراسي الفلسفة بالجامعات ، إن هي إلا علامة خارجيـة للحكمـة وطيفها . أما الحكمة الحق ، فتعتذر عن الحضور إلى هـذه الأمكنـة وتُؤثر ، بدلا عنها ، أمكنة أخرى لا يوجد فيها تفاخر ولا تبـاهي ولا زعيق . مثلما أن الرياء هو العلامة الخارجية الكاذبة للتقوى والورع ، وهَلُمَ جَرّا .
إن معظم أشياء هذا العالم ليست سوى كومة من جوزٍ فارغ قلما نجد نواة بداخله . ويتعين البحث عنها في أماكن أخرى فلا نكاد نعثر عليها إلا بشق الأنفس . »

آرثر شوبنهاور.


 

رد مع اقتباس