الموضوع: قصة.. قص...
عرض مشاركة واحدة
قديم 04-05-2010, 12:12 PM   #3
يحي غوردو
عضو دائم ( لديه حصانه )


الصورة الرمزية يحي غوردو
يحي غوردو غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 27460
 تاريخ التسجيل :  04 2009
 أخر زيارة : 23-03-2012 (02:38 PM)
 المشاركات : 950 [ + ]
 التقييم :  50
لوني المفضل : Cadetblue


المشهد الثاني/ حوار طرشان...



في المشهد سارد تائه، يبحث عن بوصلة...
وفي المشهد أيضا.. خصمان:
" "
هو.. وهو.. وبينهما قضبان...
من السجين منهما،
ومن منهما السجان؟؟؟
*** *** ***


كانت المضيفة الخلاسية تخبرنا أن الساعة تشير إلى الحادية عشرة من صباح 30 أكتوبر من عام 2008، وأننا فوق سماء مدريد مباشرة، وأن كابتن الطائرة يطلب منا شد الأحزمة استعدادا للهبوط في مطار باراخاس ترمنال 1... Barajas ...
أول ما فعلت بعد الانتهاء من إجراءات المطار، هو البحث عن تاكسي يقلني إلى وسط المدينة...
مدريد، كانت مستلقية تحت أشعة الشمس، كشقراء تعمل على تسمير بشرتها... تحت سماء برتقالية جدا، وجو خانق كافر... رغم أنه كان خريفا...
و"هولا"hola، كلمة لا بد أن تعرفها إن كنت تنوي زيارة أسبانيا، على الأقل لتدخل قلوب الأسبان برشاقة أكبر..
رد السائق التحية، وسألني عن وجهتي... كنت أريد مكانا قريبا من كل شيء، فقلت:
- : "جران بيا"..
ال gran via : شارع يتيح لي كلما زرت مدريد رؤية ليلية ساحرة، فضلا عن كونه يجمع بين الشياطين والقديسين.. وهذا بالضبط ما كنت أبحث عنه...
فيما كانت السيارة تلتهم شوارع المدينة المثقلة بتركتها الأثرية والسياحية، راح السائق - الذي بدا لطيفا وخجولا - يشرح كل التفاصيل، دون أن أطلبها منه، وقد تركته على سجيته رغم أني كنت أعرفها جميعا...
للعبور إلى الفندق كان علي أن أتلافى بائعات الهوى، بملابسهن المستفزة وصدورهن النافرة، يقطعن السبيل.. حجزت في السيناتورsenator بكل سهولة ويسر، فأنا أعلم أن الوقت لا يصادف موسم الذروة السياحية، كما أن الكساد الاقتصادي، الذي انطلق من الولايات المتحدة قبل شهر، انتقل إلى هنا بسرعة كبيرة.. وهو الموضوع الذي أتيت خصيصا لإعداد تحقيق صحفي عنه... أقصد، تحديدا، انعكاساته على الجاليات المقيمة بمدريد...
أخذت حماما خفيفا ثم خرجت، كان الأصيل قد شارف على نهايته، عندما كنت أعبر شارع مونتيرا calle de la montera وصولا إلى بوابة الشمس puerta del sol ومن هناك انحدرت إلى الساحة الكبرىplaza mayor.. مكاني الأثير في هذه المدينة التي لا تنام...
الناس قد انتشرت شذر مذر، بعضهم استلقى عند سنابك الفارس الذي لم يترجل/"فيليب الثالث"Felipe III، منذ نكبة الموريسكيين، وبعضهم انتشر بين المقاهي والمطاعم، خصوصا وأن الشمس كانت قد شارفت على الغروب، والشعب الأسباني شعب ليل بامتياز... حتى إنك تلحظ تأثيره على مدن الشمال المغربي: طنجة وتطوان وغيرها... بوضوح، ومن زار هذه المدن يعرف ذلك قطعا...
بتؤدة توجهت نحو المقهى الذي جلست فيه عند أولى زياراتي لمدريد، في هذه الساحة بالضبط... كان ذلك في مثل هذا الوقت من سنة 1991.. الجو كان خريفيا أيضا.. والسماء برتقالية لا أكاد أميزها عن سماء هذا اليوم... وكنت أبحث أيضا عن موضوع أكتب فيه.
يومها رحت أقلب وجهي في مختلف الأرجاء والزوايا، أحدق تحت الشمسيات الملونة عسى أن أجد أبطالا لقصتي الجديدة.. أذكر أنه كانت هناك أماكن كثيرة شاغرة... وأني توجهت، بخجل مصطنع، نحو طاولة مركونة في الزاوية، فقد كنت أحس بالغربة وحدي هناك... تلك الزاوية التي أصبحت ملاذي الأثير، بعد ذلك في زياراتي المتكررة، رغم أن الشعور بالغربة كان قد فارقني منذ زمن بعيد...
الآن أتوجه نحوها، كمسحور، وخيالي يعيد تشكيل زيارتي الأولى إلى هنا مساء 30 أكتوبر من عام 1991... أسلمت مخيلتي لذكرى لم تغب عني تفاصيلها أبدا...
وقتها سرت نحو الزاوية، كما قلت، أتفرس في الوجوه باحثا عن أبطال لقصتي الجديدة.. ولست أدري كيف فارقني خجلي، المصطنع، عندما رأيته جالسا هناك، وحيدا، بمعطفه الأسود، ولحيته السوداء، وقبعته السوداء أيضا.. وضفيرتين تتدليان من جانبي رأسه... سحبت كرسيا وجلست، دون أن أقول شيئا.. أما هو فقد رد على صمتي بصمت مماثل...
التفتُّ إلى يساري لأبحث عن الثاني، عن رجل داخل عقال وكوفية، وكنت أتوقع أن يطول بحثي، لكن هذا لم يحدث.. إذ لشد ما تفاجأت عندما رأيته جالسا على بعد طاولتين منا، وقد شبك أصابع يديه عند بطنه، وراح يقلب إبهاميه في حركات لولبية، كأنما كان على موعد...
موعد معي من دون شك (هكذا قلت في دخيلتي، وأنا أشكر الصدف التي خدمتني على غير عادتها).. تقدمت نحوه، وطلبت منه أن ينضم إلى طاولتنا...
- أنت تعرفني، سيدي؟؟؟ سأل في دهشة...
- أجل، قلت، منذ هذه اللحظة... فقد اخترتك بطلا لقصتي الجديدة...
نظر إلي ببلاهة لا تخلو من سخرية، كأنما ابتلي بأحمق، لكن فضوله منعه من عدم مجاراتي، وأنا كنت على علم بما يدور في خلده: أليس مجرد شخصية في عملي السردي؟؟؟
- طيب، قال، وسحب نفسه بتثاقل لينضم إلينا...
كان الآخر ما زال يلوذ بصمته، كأنثى تتمسك بعذريتها، لكني كنت قد قررت افتضاضها...
قلت: أنتما بطلان الآن، رغم أنكما تجهلان ذلك...
نظرا معا إلى المعتوه الذي جمعهما هنا، على غير موعد، وهو يبذل جهده لتكسير حاجز الصمت بينهما...
أجل.. أجل، تابعت، أنتما بطلا عملي السردي الجديد، لكني قررت أن أترككما على سجيتكما، هكذا تتصرفان بحرية أكبر... سأنزوي هنا جانبا، سألوذ بالصمت كما أنتما الآن، ولن أرسم لكما أي سيناريو أو حوار... وحدكما قررا ما تشاءان... وأنا سأتولى الكتابة... جرت العادة أن يتم تحويل العمل السردي إلى عمل سينمائي، أما نحن فسنقوم بالعكس.. هكذا، أعتقد، سنكون أقرب إلى تشكيل الواقع، وأكثر التصاقا به.. أليس كذلك؟
لم يردا عليّ، ولم يسلما على بعضهما، حتى إنهما لم يتصافحا.. ولم يشغلني ذلك لأني كنت أتوقعه.. ربما لاحقا سيفعلان، قلت في نفسي...
رأسان، أحدهما داخل كوفية، والثاني أسفل قبعة.. مدعوان لإقامة حوار، في يوم برتقالي من أيام مدريد الخريفية، وهما يأبيان تكسير حاجز الصمت بينهما، فيما كنت منشغلا بالبحث عن طريقة لتفجيره...
ما زلت أتكلم بيني وبين نفسي فيما استعصم كل منهما بصمته.
(قلت في نفسي دائما): تاريخهما المشترك ليس نقيا أبدا، ودعوتهما للتحاور تشبه الجمع بين قطعتي مغناطيس من قطبين متنافرين.. لكني وجدت الحل، للجمع بين المتنافرين، وكان بسيطا جدا: "ألا أتدخل"... أليس هذا ما قررت فعله منذ البدء؟؟؟
في البدء إذن كان الصمت، وكنت أنا، ورأسان مدعوان لإقامة حوار...
انسحبت بحجة الذهاب إلى الحمام، وتركتهما يجتران صمتهما... عندما رجعت كان الوضع قد تغير، وما كان علي عندها إلا أن أتناول قلمي وأسجل حوارا كان قد فاتني جزء منه...
" "



(يتبع...)


 

رد مع اقتباس