![]() |
|
![]() |
|
![]() |
||||||||
|
||||||||||
![]() |
![]() |
![]() |
الملتقى العربي السياسي للوقوف على جميع الأخبار في وطننا العربي الكبير ، كل حسب رؤياه ،،، |
![]() |
|
أدوات الموضوع |
![]() |
#1 | |||
نائب المشرف العام سابقا
عضو مجلس إداره دائم
![]() |
باب الخروج
هى رواية للرائع عز الدين شكرى ..
قد تكون ادبية .. لكنها بالمقام الاول توقعات سياسية تشاؤمية .. فعلى الرغم من روعة الرواية وتفوق عنصر الاثارة والتشويق فيها .. الا ان نتمنى وندعوا المولى ان تقتصر على خيال كاتبها .. اترككم مع الحلقة الاولى من باب الخروج .. عزيزى يحيى أكتب لك رسالتى هذه وأنا هادئ تماما، على عكس ما توقعت. بل إن هناك بهجة عميقة تعترينى، وما كنت أحسبنى أبتهج. كنت أظن أنى سأضطرب وأخاف من هول العواقب، أنا الذى لم أدخل فى صدام بحياتى كلها. كنت أتمنى لو لم يحدث أى من الأمور التى حدثت، مع أنى فكرت فى الأمر عشرات المرات، من كل الجوانب التى استطعت تبيُّنها، ووصلت إلى قناعة تامة بحكمة قرارى هذا. تمنيت لو سارت حياتى فى طريقها المعتاد. لكنى، مثلما يقول كل المضطرين لاتخاذ قرار يكرهونه، لم يكن أمامى إلا الاختيار من بين البدائل المتاحة. تمنيت لو استطعت إضافة خيارات أخرى، لكنى لا أستطيع. والمفاجأة أنى لم أعد أكره قرارى، بل على العكس. لم يبقَ أمامى سوى أربع وعشرين ساعة لأكتب هذه الرسالة التى قد تكون الأخيرة. وكنت أظن هذا الوقت كا فٍ لأكتب لك كل ما أردت، لكنى أدرك الآن أن الوقت لن يسعفنى. كان ينبغى البدء قبل الآن، ربما بثلاثة أيام، لكن لم يكن ذلك ممكنا، من الناحية الأمنية. لذا سأدخل فى الموضوع مباشرة دون استرسال. وأطلب منك منذ الآن أن تعذرنى، فالوقت قليل، ولدىّ أشياء كثيرة أقولها لك، ورغم أنى فكرت طويلا فى ما سأسطره حين أشرع فى الكتابة، وصغته فى ذهنى عشرات المرات، فإن الأفكار تتزاحم الآن فى رأسى. ستجد رسالتى مشوشة بعض الشىء، ومؤكد أنى سأكرر بعض الأشياء، وأطيل حين تظن أن علىّ الإيجاز وأوجز حيث تنبغى الإطالة. سامحنى. لو كان الوقت يسمح لكنت راجعت هذا الخطاب بعد إنهائه وشذبته كى يصبح نصا متماسكا منمَّقًا كما اعتدت أن أفعل. لكن لم يعد هناك وقت لأى من هذا، سأقول ما لدىّ بغض النظر عن الطريقة التى سيبدو عليها الكلام. ولندخل فى صلب الموضوع. اليوم هو العشرون من أكتوبر 2020، وحين تصل إليك رسالتى هذه، بعد يومين بالضبط من الآن، سأكون سجينا أو جثة. إما سيقولون لك إن أباك مات بطلا، وإما ستقرأ فى الجرائد نبأ خيانتى الكبرى والقبض علىّ. أنا، الذى شاهدت بأم عينى صنوف الخيانة كلها، سيرموننى بدائهم وينسلون، كما فعلوا من قبل، عشرات المرات. لم أحاول منعهم من قبل، لكنى لن أدعهم يفلتون بفعلتهم هذه المرة. لا، ليس هذه المرة. هذه غضبتى، غضبة عمر بأكمله. غضبة قد تكون الأخيرة، لكنى لن أضيعها سدى. أخذت احتياطاتى، وعزمت أن لا ألعب دور الضحية. وهذه الرسالة، قد تكون طوق نجاتى الأخير إن فشلت كل الاحتياطات الأخرى. فاحرص عليها، فقد تكون هى الفارق بين الخيانة والبطولة، بين النصر والهزيمة. إن قُتلت فى اليومين القادمين، لأى سبب كان، فستكون أنت ورسالتى هذه آخر وسيلة لإنقاذ سمعتى وإنقاذك أنت والباقين من كارثة محققة. فاقرأ جيدا. ولا تتعجل، سأشرح لك القصة كلها. سأبدأ من البداية وأشرح لك كل شىء. وحتى لو لم يقتلونى، أريدك أن تسمع الحكاية منى قبل أن تسمعها من الآخرين. أريد أن أشرح لك ما حدث قبل أن يشوهوا صورتى أمامك. وهذه مسؤوليتى إزاءك كأب ستحمل اسمه رغما عنك ما حييت، وتقترن سيرتك بسيرته شئت أم أبيت. وأهم من ذلك، تتصل دواخل نفسك به وبصورته وبما فعل. ومن ثم وجب علىّ التفسير. ومن باب الاحتياط أيضا، ولأنى لست متأكدا من نجاتى من هذه المغامرة، لأنهم لا يعرفون حدودا ولا يتوقفون عند شىء، فإنى أريد أن أقول لك الآن كل ما أردت قوله لك فى سنواتك القادمة. سأفعل إذن ما لم نفعله معا من قبل، أنت الذى تبلغ عامك العشرين بعد أسابيع قليلة، وهو أن أحدثك كصديق، من رجل لرجل. سأقص عليك أشياء يُذهِلك سماعها، خصوصا منى أنا، وبعضها سيزعجك. سأحدثك عن مشاعر ربما لم يخطر لك أنى أمر بها، وعن أمك، وآخرين من عائلتنا ومن أصدقائنا المقربين. كنت أفضل أن أقول لك هذه الأشياء واحدة واحدة، وأنت تنتقل من عتبة إلى عتبة فى مشوار الرجولة الطويل. لا يحب الرجل منا سماع النصائح، خصوصا من أبيه، لكن الأب الذكى الصبور يجد دوما طريقا لتسريب النصائح لابنه، واحدة واحدة ومع الوقت. مضطر أنا إلى القفز فوق كل هذا، ومضطر إلى أن أقول لك كل ما أريد دفعة واحدة وأنت فى خطوتك الأولى نحو الرجولة. لن يعجبك معظم ما أقوله فى هذا الشأن، ولك الحق. ستبحث لنفسك عن طريقك الخاص، بل وقد تحاول إثبات خطأ آرائى، ولك الحق. كل ما أطلبه منك أن لا تحارب هذه الآراء. ضعها فى محفظتك، كصورة قديمة لى، ومن وقت إلى آخر، لنقُل فى عيد ميلادى أو ميلادك، أخرجها وانظر إليها من جديد وفكر فى جدواها وصحتها مرة أخرى. هذه هى الطريقة التى قد تبقى لنا لأكون أباك فى سنواتك الكثيرة القادمة. سأحدثك إذن كأن هذه محادثتنا الأخيرة، وكلى أمل وتصميم أن لا تكون كذلك. لكنى أفعل هذا من باب الاحتياط، فلا أريد إن قتلونى أن أتركك دون أب، ولو فى صورة رسالة. سأقص عليك قصصى دون حواجز، كأصدقاء. وتذكر، إن أزعجك بعض كلامى، أنى أحبك، كأنك أنا. وأنى حين أنظر إليك أراك كأنى أنا أعيد تشكيله بطريقة أخرى. فنحن فى نهاية الأمر رفقاء سلة الجينات التى نتقاسم معظمها، كأنها سحابة تضمنا نحن الاثنين، أحيانا تصير أنا وأحيانا تصير أنت. وتأكد أنى أحب طريقتك المختلفة عنى كما أحب طريقتى، وأنى أحب فيك تمسكك بهذا الاختلاف ويملأ قلبى اطمئنان وحب وأنا أرقبك تبحث عن نفسك لطريقك الخاص. أنت أنا الآخر. ويوما ما ستشعر مثلى بالضبط، وأنت ترقب ابنك يكبر. سأحكى لك أشياءً عنى وعن أمك، أريدك أن تقرأها وتحاول فهمها كرجل، لا كطفل ينظر إلى والديه. سأحكى لك عن عمك وعمتك، ولا أدرى إن كنت تتذكرهما، وعن نساء عرفتهن، وأصدقاء سيذهلك أنهم كانوا أصدقاء أبيك. وسأحكى لك عن جدك وجدتك. وعن نور، تلك الشمس المشرقة التى تعرفها لكنك لا تعرفها، والتى ستراها كثيرا إن نجوتُ من مغامرتى هذه وإن لم أنجُ. سأحكى لك عنها كى تراها جيدا عندما تراها. وسأوصيك خيرا بكل هؤلاء، أن تبقى على ود من بقى حيا منهم وأن تزور قبور من مات وتقرأ له الفاتحة، ولو مرة كل عام. ستريك هذه الرسالة وجها لا أحسبك قد رأيته فى من قبل أو حتى تخيلت وجوده. أنا الهادئ دوما، الصامت معظم الوقت، المنفرج الأسارير دون ابتسام، الذى لا يشعر أحد بوجوده كأنه شبح شفاف، سترى نسخة جِدَّ مختلفة لأبيك. سأتوقف عن الاسترسال وأنتقل فورا إلى ما أريد قوله، لكنى أذكّرك مرة أخرى أن تبلغ كلمتى هذه للعالم إن أصابنى مكروه. انشر هذا الخطاب، دون حذف أو إعادة صياغة أو ترتيب. انشره كما هو، لأن ما فعلته لن يكون له معنى إن لم يعلم الناس به وبالأسباب التى حدت بى إلى فعله. إن حاكمونى فسيكون لدىّ فرصة لفضحهم وشرح ما سيسمُّونه خيانتى للوطن. أما إن قتلونى فسيكون ذلك محاولة منهم لإخفاء القصة بأكملها، وسيقع على عاتقك حينها فضح ما جرى. كل ما عليك فعله هو وضع هذه الرسالة على الإنترنت. أمامى أربع وعشرون ساعة كى أكتبها، وعند بدء الهجوم مباشرة سأرسلها، فى تمام الرابعة صباحا. وستصل إليك بعدها بأربع وعشرين ساعة أخرى تكون خلالها قد نسخَت نفسها مرارا فى نقاط آمنة بحيث لا يمكن لأحد محوها. لن يفلتوا هذه المرة. أكتب لك من بحر الصين الجنوبى، من فوق متن سفينة شحن تجارية بريئة المظهر، نشقّ عباب البحر فى هدوء شديد عائدين إلى مصر. يُفترض أن نبلغ ميناء النصر الجديد بعد خمسة عشر يوما نحن والشحنة النووية التى نحملها وسط آلاف الحاويات التجارية. بمجرد وصولنا سيتم توزيع هذه الشحنة على الصواريخ التى تنتظرها، وإطلاقها على قيادة قوات الاحتلال فى العريش وشرم الشيخ ونخل والمراكز السكانية الكبرى داخل إسرائيل، وعلى القوات الأمريكية المنتشرة فى الأحساء وغرب إيران. هذا هو الحل النووى النهائى الذى توصل إليه الرئيس القطان بعد فشل كل الحلول الأخرى. لا أحد يعلم بمحتوى شحنتنا هذه غير ستة أشخاص، رجل صينى واثنين من كوريا الشمالية، والرئيس القطان واللواء المنيسى وأنا. أو هكذا يُفترض. لكن الحقيقة أن هذه السفينة الهادئة قليلة العمال والركاب ستجتاحها فرقة كاملة من البحرية الأمريكية فى الرابعة من صباح الغد، أى بعد أربع وعشرين ساعة بالضبط. الحقيقة أيضا أنى -أنا المترجم الصامت الذى لم يأخذ فى عمره موقفا حادا- أنا من أبلغهم. أنا الخائن. ع.ش.فشير المصدر: نفساني
|
|||
![]() |
![]() |
#2 |
نائب المشرف العام سابقا
عضو مجلس إداره دائم
![]() |
الحلقة الثانية ..
كانت فى مثل سنِّى وقتها.. ذات ابتسامة مضيئة ووجه مستدير يحيطه شعر أسود قصير.. حين تقرأ يتهدل على عينيها حتى يغطيهما..وحين ترفع رأسها وترانى تلمع عيناها الضيقتان بنظرة تشع لؤما بريئا أنا المترجم الرئاسى، الموثوق به، الذى قضى عمره فى ردهات القصور، على متن الطائرات الرسمية، أو فى قاعات محظور الدخول إليها، جالسا بين مقعدين، يستمع ويترجم لشاغرَيهما ما يقوله كلٌّ للآخر دون أن يكون له أن يقول. أنا الذى سمع الكثير ورأى الكثير، منذ التحقت بهذا القصر الأسطورى وأنا شابٌّ فى مثل عمرك وحتى صار حماى رئيسا. كم سنة؟ التحقت بالخدمة فى أثناء حرب تحرير الكويت، فى بداية 1991، ونحن نقترب الآن من نهاية 2020، أى قرابة ثلاثين عاما. ثلاثون عاما لم أتكلم دون أن يُطلب منى الكلام. شاهد صامت على عائلة ممتدة من المؤامرات والصفقات والخيانات والفتن. شهدتُ طرد الرئيس من القصر عند اندلاع الثورة الأولى، وشهدت الحكم العسكرى، ونجوت بأعجوبة من الموت فى أثناء اقتحام القصر الرئاسى وإحراقه فى الثورة الثانية، وشهدت الاحتلال والتفاوض والتخاذل، وخيبة الأمل. وكنت دوما شاهدا صامتا، مرآة لما يقوله الرئيس وضيوفه. وحين قررت الخروج عن صمت ثلاثين سنة، لم أجد أمامى سوى الخيانة طريقا. سيهاجمون السفينة عند الفجر. هذا ما اتفقنا عليه. أنا الذى أبلغتهم بالصفقة المرعبة، وبخطِّ سيرنا، وبتفاصيل السفينة وأماكن الشحنة وأكوادها. فى البداية ذهلوا وظنُّوا أنى جُننت أو أخدعهم. لكنى أثبتُّ لهم بما لا يدع مجالا للشك أن هذا الجنون حقيقة. وتتبعوا من خلالى تطور الصفقة حتى أمس، حين قطعنا الاتصالات الإلكترونية بالعالم الخارجى ودخلنا فى صمت لاسلكى كامل. لا يوجد مصريون هنا غيرى أنا واللواء المنيسى. الباقون طاقم السفينة التجارية وعمال شحن آسيويون. حين وضعنا خطة نقل الشحنة فضَّلنا أن لا نأتى بمصريين غيرنا حفاظا على السرية. وبالطبع لم نضع حراسا مسلحين لتفادى الشبهات. ثم ما جدوى الحراس فى مواجهة سلاح البحرية؟ أقول وضعنا الخطة لأنى شاركت فى هذا. كما شاركت فى الاتفاق على خطة البحرية الأمريكية للاستيلاء على السفينة. تقتضى الخطة عدم إطلاق النار على أحد: سيهبطون فى الظلام من طائراتهم ويقبضون علينا جميعا، يصادرون الشحنة النووية ثم يقطرون السفينة إلى أقرب قاعدة بحرية أمريكية ويسلموننا بعدها -وأمام الكاميرات- للسلطات المصرية. لا يعلم أمر الشحنة ومكانها وخط سيرها سوانا أنا واللواء المنيسى والرئيس القطان. حتى الرجل الصينى الذى لعب دور الوسيط مع الكوريين مصدر الشحنة لا يعلم أين ذهبنا بها منذ تَسلَّمناها. استقلَّ الطائرة إلى مصر مع مرافق مصرى لا يعرف شيئا من أمر العملية سوى ضرورة مرافقة هذا الرجل الصينى الهامّ حتى مطار القاهرة، وبلغنا أمس أنه وصل وينتظرنا هناك. طاقم السفينة يعلم أننا نصاحب شحنة هامَّة، ووافق على بعض الاحتياطات مقابل الأموال التى تلقوها، لكنهم لا يعلمون كنه الشحنة. رتبنا عمليات النقل والشحن عن طريق حلقات منفصلة لا يعرف بعضها بعضا ولا تعرف من أمر العملية نفسها شيئا. وبالتالى، حين تهبط طائرات البحرية الأمريكية على رؤوسنا فى الفجر، لن يكون هناك شك لدى اللواء المنيسى أنى أنا الذى أفشيت السر. قد يتردد الرئيس فى تحديد من منّا الخائن، لكنه سيتذكر ولا ريب معارضتى للفكرة ومحاولاتى الخجول لثنيه عن تنفيذها. على العموم أنا لا أنوى الإنكار. ومثلما رفضت عرض الأمريكان بتوفير ملاذ آمن لى (قالوا إنه سيكون على البحر إن شئت ![]() ولكن ماذا لو وقع اشتباك؟ ماذا لو كان لدى اللواء المنيسى تعليمات من رئيسه بأن لا يترك الشحنة إلا ميتا، أنا وهو؟ أو لو وقع لى «حادث أليم» بعد تسليمنا للسلطات المصرية؟ ماذا لو تغابت القوة المهاجمة كعادة القوات المهاجمة وبدأت فى إطلاق النار فى كل الاتجاه مثلما كانوا يفعلون فى الأفلام القديمة؟ فى أى من هذه الحالات، ستكون هذه الرسالة بين يديك، تشرح تفاصيل خيانتى وأسبابها وملابساتها، وتكون مهمتك هى قراءتها، والتفكر فيها، ونقلها للناس. هى قصة طويلة، وسأقصها عليك بكل التفاصيل التى أستطيع ذكرها، فقد يكون هذا آخر ما يصلك منى. لدى أربع وعشرون ساعة، سأملؤها بقصصى ولن أنام. سأبدأ قصتى من حيث سأنهيها، من العاصمة الصينية بكين. وسيكون حاضرا معى فى لحظة البداية، لسخرية القدر، تقريبا نفس الأشخاص الذين سينهونها معى. كنا فى عام 1989 وأنا تقريبا فى مثل عمرك، على وشك التخرج فى الجامعة. وكنت فى بكين مع جدك رحمة الله عليه، العميد شكرى فؤاد الذى كان فى العام الأخير من خدمته بالصين كملحق عسكرى. انتقلنا جميعا معه، جدَّتك عزيزة وعمك عمر وعمتك صفية، حين بدأ عمله هناك قبلها بثلاث سنوات. ظلَّ ثلاثتنا مقيَّدين بالجامعة بمصر، عمر بالسنة الأخيرة بكلية الحقوق وصفية بالسنة الثالثة بكلية التجارة، وأنا بالسنة الأولى بقسم الفلسفة بآداب القاهرة. ولأنها كليات نظرية فقد دبَّر لنا الوالد تفاهما مع الجامعة يسمح لنا بالغياب طوال السنة الدراسية والعودة لأداء امتحانات آخر العام. وبالتالى كان لدينا كثير من الوقت فى بكين. عمك عمر كان قَلوقا بطبعه، ولم يحتمل الفراغ الكبير والغربة عن كل شيء خصوصا أن اللغة الإنجليزية لم تكن وقتها منتشرة فى الصين. وانتهى به الأمر بأن عاد إلى مصر وعاش بالمدينة الجامعية حتى تَخرَّج، ثم وافق أبى أخيرا على إقامته ببيتنا بمدينة نصر وحده حتى عدنا. صفية قضت الوقت الكثير المتاح مع أمى رحمها الله، بين العناية بالبيت الكبير والإشراف على حفلات الاستقبال العديدة التى يقيمها الوالد، ومساعدتها على «التصرف» لإطعام الضيوف الذين يأتى أبى بهم إلى البيت دون سابق إنذار، وبين اكتشاف أماكن التسوق الأفضل والأرخص فى متاهات بكين. أما أنا فقد قضيت هذا الوقت فى تعلم اللغة الصينية. لِمَ؟ بلا سبب واضح. كنت بارعا فى اللغات، ورغم تعليمى الحكومى فقد أتقنت الإنجليزية بشكل لافت. ولأنى كنت أحب الفلسفة وأدرسها، فقد فكرت فى تعلم اللغة الصينية كى أقرأ الفلسفة الصينية بما أنى أعيش فى بكين. فكرة ساذجة طبعا، لكن هكذا نفكر ونحن فى السابعة عشرة، إن كنت تذكر! المهم أنى أقنعت أبى وسجَّلنى فى مدرسة تعطى دروسا مكثفة للأجانب. وبرعت فى هذه اللغة الصعبة بشكل لفت أنظار الجميع، حتى إنى صرت قادرا على القراءة والكتابة والحديث بشكل معقول فى عام ونصف. ولم أتوقف، بل تابعت الدراسة طوال الوقت حتى صرت، بلا مبالغة، طلقا فيها كأهل البلد بنهاية السنة الثالثة، حين بدأت سلسلة الأحداث التى ستقودنى إلى هذه السفينة القاتلة. نجاحى فى اللغة الصينية جعلنى محطَّ فخر أبى وأمى وأختى بشكل لم أعهده من قبل. غمرنى هذا الفخر بشعور بالحنان والدفء والاطمئنان لا مثيل له، وما زال يراودنى كلما ذكرتهم. استغرب الجميع، خصوصا أصدقاء أبى وزملاءه، من نبوغى فى تعلم اللغة، وتطوعوا بتفسيراتٍ ما أنزل الله بها من سلطان، من عقل المراهق الذى يلتقط اللغات بشكل خاص، إلى الذاكرة البصرية التى تصور الحروف. وصحيح أنى موهوب فى اللغات بشكل عام، ويشهد على ذلك تعلمى للفرنسية وإتقانى لها بعد عودتى إلى مصر، ولكن الحقيقة أن سبب إتقانى للغة الصينية، وإتقانها بهذه السرعة الصاروخية، أبسط بكثير من هذه التفسيرات وأحلى، واسمه «داو مينج». داو مينج كانت فى مثل سنِّى وقتها. ذات ابتسامة مضيئة ووجه مستدير يحيطه شعر أسود قصير. حين تقرأ يتهدل على عينيها حتى يغطيهما. وحين ترفع رأسها وترانى تلمع عيناها الضيقتان بنظرة تشع لؤما بريئا، ثم تغطى فمها بيدها وتشيح بوجهها كأنما خجلا. أين أنتِ الآن أيتها الدربُ المضىء؟ التقيتها فى معهد تعليم اللغة الصينية للأجانب، حيث تدرِّس كجزء من برنامج للخدمة العامة يتعين على الشباب الجامعى المرور به. ورغم حداثة سنِّها، أو ربما بسبب ذلك، فقد كانت شديدة الصرامة معنا. حتى سألتها فى مرة بعد الدرس عن جامعة بكين التى تدرس بها، استرسلت فى الرد حتى جاء عامل التنظيف وقال لها شيئا لم أفهمه، وساعتها رأيت لأول مرة ابتسامتها المضيئة تلك وحركة تغطية فمها بيدها. أعجبتنى. وأنت تعرف كيف تعجبنا البنات ونحن فى السابعة عشرة. سألتها عما قاله الرجل فقالت إنه يطردنا لأننا تأخرنا. لم أفهم ما المضحك فى ذلك، ولم أكن بعد قد علمت أن هذه طريقتها فى التعامل مع كل ما يفاجئها. مشيت معها حتى محطة الأوتوبيس. سألتنى عن معنى اسمى فقلت مُحرَجا «الشخص المرتفع». ضحكت وهى تهزّ رأسها وصمتت. فسألتها عن معنى اسمها هى فقالت «الدرب المضيء». ثم صمتنا وبدأت أشعر بحرج شديد وفشل وندم أنى حدثتها. سألتنى كيف أدرس بمصر إن كنت موجودا بالصين طوال العام فشرحت لها وهى تهز رأسها. وعندما قلت إنى أدرس الفلسفة وقفت وسألت فى دهشة: «الفلسفة؟! أنت تدرس الفلسفة؟!» قلت: «نعم»، فأضافت ببساطة شديدة أنها هى أيضا تدرس الفلسفة، ثم ضحكت ووضعت كفها على فمها وأشاحت بعينيها ناحية الأرض واستأنفت السير. وهكذا، فى هذه اللحظة، ونحن سائران نحو محطة الأوتوبيس، هى تنظر بعيدا وأنا أحدّق إلى شعرها، قررت أنى أحب داو مينج. |
![]() |
![]() |
#3 |
عضـو مُـبـدع
عَلَى أعتاَبِ غيمَة ! ![]() |
هذا الروائي يتمتع دوماً بسرد جميل مثير للتشويق .
متـابعة لكَ أيهـا الفاضل لاتقطع التكملة، رافقتكَ السعـادة أينما كنت |
![]() |
![]() |
#4 | |
نائب المشرف العام سابقا
عضو مجلس إداره دائم
![]() |
اقتباس:
اهلا بك اختى الكريمة .. اتفق معك بروعة المؤلف .. وازيد روعة توقعه وسيناريو الخروج .. لكن للاسف السياق به مفردات لا تتفق بقوانين المنتدى ولهذا توقفت .. اشكر لك اهتمامك ومتابعتك .. |
|
![]() |
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|