![]() |
|
![]() |
|
![]() |
||||||||
|
||||||||||
![]() |
![]() |
![]() |
الملتقى العام لكل القضايا المتفرقة وسائر الموضوعات التي لا تندرج تحت أي من التصنيفات الموجودة |
![]() |
|
أدوات الموضوع |
![]() |
#1 | |||
عضـو مُـبـدع
![]() ![]() ![]() ![]() |
شهيد العيد قصة (مأساوية).!
كلفتني محطة الشرق الأدنى أن أكتب قصة لتذاع عني في أول يوم من العيد
، وهذا هو العيد قد حل حلت عليكم فيه البركات والخيرات ، ولكن القصة لم تكتب .......أن لها قصة يا سادة فاقرأو قصتها .... أنا رجل من طبعه التأجيل والتسويف ، أؤخر الأمر ما دام في الأجل فسحة أرجئه الى آخر لحظة منه ، ثم أقوم كالمجنون أنط قافزا مثل الأرنب الذي زعم (آخانا..) لا فونتين انه نائم حتى سبقته السلحفاة ، وان لم أكن قد رأيت في عمري سلحفاة تسبق أرنبا ... فلما ورد علي كتاب المحطة نظرت فإذا بيني وبين موعد الإذاعة أمد طويل فاطمأننت ونمت ، حتى إذا كانت ليلة العيد ، ولم يبقى أمامي إلا ساعات معدودة أكتب فيها القصة وألحق بها البريد الجوي ، أخذت قلمي وصحيفتي لأكتب سدت علي أبواب القول ومنافذه وكواه .... وعدت مرتجا علي محبوسا لساني كأني ما مارست الكتابة قط ، وكذلك نفس الأديب يا سادة تتفتح تفتح الينبوع الدفاق ، ثم تشح شح الصخرة الصماء ما تبض بقطرة ماء ، ولكن الناس لا يصدقون ذلك :إنهم يحسبون الكاتب يخرج المقال من نفسه كما يخرج التاجر البضاعة من دكانه ، ولا يدرون أن هذا الكلام يجيء أحيانا حتى لا يقدر الأديب على رده ، ويعزب حينا حتى لا يلقاه ، وانه يعلو ويصفو وينزل ويتعكر وما عجزت الليلة عيا ولا فهاهة ، فأنا أكتب في الصحف من عشرين سنة ، ولكن الكتابة بالاجرة بيع وشراء ، ولكل مبيع ثمن ، وأنا أحب أن انتصف وانصف الناس من نفسي لذلك رأيتني كلما سقطت على موضوع وزنته فوجدته لا يساوي الثمن الذي تدفعه لي المحطة فتركته وفتشت عن أغلى ، وكلما خطرت لي فكرة طمحت إلى أعلى ، حتى كاد يمضي الوقت ولم أصنع شيئا ، ونزل بي ما نزل بالأستاذ توفيق الحكيم لما كلفوه أن يضع حوارا للفلم وجعلوا له جعلا ضخما ، فحصر فيه فكره ، وحشد له قواه وفر لأجله من داره . ثم انتهى به الأمر أن ألف كتاب (الحمار) ولم يضع الحوار . عند ذلك أيست ولبست ثيابي ، وهربت إلى الأسواق.... يتبع المصدر: نفساني
|
|||
![]() |
![]() |
#2 |
عضـو مُـبـدع
![]() ![]() ![]() ![]() |
جلت في الأسواق ، وأسواق دمشق ليلة العيد كأنها المحشر ، قد أوقدت فيها المصابيح ، وفتحت المخازن ، وانتشر الباعة ، وتدفق عليها أهل البلد والفلاحون ، بالأزياء المختلفة واللغات المتباينات ، وكل بائع ينادي برفيع صوته ، وكل مشتر يصيح ،وكل مجتاز يتكلم ، والبضائع معروضات من كل مأكول وملبوس ومفروش ومنظور ومشموم ، وكل يريد أن يعد الليلة عدته للعيد فيشتري فيها طعامه ولباسه . . .
وكنت أسير في هذا الزحام شارد الذهن ، نازح الفكر ، أعمل عقلي في هذه القصة . . . التي وعدت بها المحطة فأعلنت عنها وبشرت بها ، ثم لم أستطع أن أكتبها ، حتى وصلت إلى ( باب المصلى ) ؛ فإذا أنا بحشد عظيم من الناس قد احتشد حيال دكان ، فدفعني الفضول إلى معرفة الخبر ، فأقبلت أدفع الناس بكتفي ، وأشق طريقي بيدي كلتيهما وأطأ أعقاب الناس وأقدامهم ، وأصغي إلى هذا الفيض العجيب من . . . النثر الفني . . . الذي جادت به قرائحهم ، فتدفق علي من ألسنتهم ، حتى بلغت المشهد ونظرت . . . * * * نظرت ،فرأيت اثنين يختصمان ويعتركان ، أما احدهما فكان مسكينا قميئا أعزل عاجزا ، وأما الآخر فكان ضخما طويلا كالح الوجه ، مفتول العضل ، وسخ الثوب ، قد حمل سكينا في يده طويلة النصل ، حديدية الشفرة ، وهجم بها على صاحبه والناس ينظرون ولا ينكرون ، وصاحبه المسكين يصرخ ويتلفت تلفت المذعور ، يطلب الغوث ولا يغيثه أحد ، ويبتغي المهرب فيسد عليه الناس طريق الهرب . . . واني لأفكر ماذا أصنع . . . واذا بالخبيث العاني يذبحه والله أمامنا ذبحا ويتركه يتخبط بدمه ، ويوليه ظهره ويمضي الى دكانه متمهلا ، فيعالج فيها شأنه على عادته ، كأنه لم يرتكب جرما ولم يأت الأمر النكر جهارا ! وكدت أهجم عليه ، وأسلمه إلى الشرط . ثم ذكرت أن الشجاعة في مثل هذا الموطن تهور وحماقة ، وأن المجرم بيده السكين . لا يمنعه شيء أن يجأ بها من يريده بشر ، وطمعت أن يتحرك أحد الواقفين فيقدم عليه فأتبعه وأشد أزره ، فلا والله ما تحرك احد منهم ، ولا جرؤ على ذلك ؛ بل لقد تكلم واحد منهم ، فلما رفع القاتل رأسه ونظر إليه رأيته يجزع منه وفزع ، ويقول له بصوت مضطرب متلجلج : ( الله يسلم يديك ) ! وحرت ماذا أعمل : أأبلغ الشرطة ، أو أدعهم وأمضي إلى داري لا علي ولا لي ؟ ثم رأيت أن خير ما أفعل أن أكتب وصف ما رأيت ، وابعث به ليذاع ويعرفه الناس . * * * وهاأنذا أتهم الرجل بالقتل ،وأدعو الحكومة إلى القبض عليه حتى يعاقب ويكون عبرة لمن يعتبر . ولا يحسبن أحد أنه فر ، وأن القصة متخيلة أو مكذوبة ، أو انها من أساطير الأولين أو من أخبار العصور الخوالي ، فالقاتل موجود في دكانه يغدوا اليها ويروح الى بيته والقصة حقيقية صحيحة رأيتها بعيني رأسي وأنا سالم العقل غير مجنون ولا معتوه ، متيقظ غير نائم ولا حالم ، صاح غير مخدر ولا سكران ، ثم اني رأيتها اللييلة البارحة ! هذه هي الحادثة الفضيعة التي كتب الله أن تكون موضوع قصتي التي فكرت فيها وأطلت التفكير فكيف رآها الناس فلم يحفلوا بها ولم يأبهوا لها ؟ أفسدت الأخلاق ، وضاعت المروءات حتى لا ننكر الأمر النكر أم خارت العزائم ، وانخلعت القلوب حتى لا نجرؤ على المجرم الظالم ؟ هل نامت الحكومة في الشام نومة أهل الكهف حتى ما تدري بالدم يسيل في شارع من أكبر شوارع دمشق ؟ لقد سكت الجميع ، حتى أنسباء القتيل قد ناموا عن دمه ، وقعدوا عن الثأر له ، ولم يتقدم أحد منهم شاكيا ولا مدعيا لأن القاتل كما قالوا ، عازم على ذبحهم كلهم ان قدر عليهم ، وماضيه حافل بمثل هذه الجرائم فما سر هذا السكوت ؟ لقد علمت السر بعد يا سادة ذلك أن المسكين الشهيد كان خروفا من خرفان عيد الضحية ، وأن القاتل كان جزار الحارة وأن الناس شاركوه جرمه ، فأكلوا لحم الذبيح مشويا ومقليا ومطهيا وأكلت معهم ، ونسيت من طيب اللحم هذا المشهد هذه هي سنة الحياة ، يموت المسكين لنستمتع نحن بأكلة طيبة . فكلوا انتم منه أيضا هنيئا واشربوا مريئا ، واشتغلوا بالاكل عن مطالبتي بالقصة وكل عام وأنتم بخير. علي الطنطاوي عام 1946 |
![]() |
![]() |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|